مقالات
حرب لا تشبهها حرب أخرى
الحرب على غزة لا يتفوق على وحشيتها وغرائبيتها إلا جرائمها. غزة لا تتجاوز مساحتها 140.9 ميلاً مربعًا، وسكانها لا يتجاوزون أكثر من مليونين وبضعة آلاف- تُشن عليها آلة الحرب الجهنمية- رابع جيش في العالم -حرب إبادة وتدمير وإفناء للبشر والمساكن والحياة.
تحشد أمريكا وأوروبا البوارج، وحاملات الطائرات، والسفن الحربية؛ لنصرة الجيش المتفوق بعدته وعتاده على كل جيوش المنطقة. المفارقة الراعبة أن الحكام العرب- في تصويرهم بألفاظ رومانسية مؤدبة، وشديدة التهذيب- تابعون لأمريكا، ومطبعون مع إسرائيل سرًا وعلانية، وكل همهم إثبات الولاء لأمريكا، واسترضاء إسرائيل، وخاضوا حروب أمريكا في غير مكان، وآخرها أفغانستان.
تشارك الحكام العرب مع أمريكا في تدمير مدن الحضارة العربية في العراق، وسوريا ولبنان، وليبيا، والسودان، واليمن، وخنق مصر، وتظافر الاستبداد والتبعية والمؤامرات والحروب على الأمة وداخل شعوبها، ليفضي إلى الوضع الكارثي.
تعلن إسرائيل الحرب ضد حماس التي تصفها بالإرهابية!! وتؤازرها أمريكا وأوروبا، وربما كانت الإدارة الأمريكية أكثر حماسة للحرب، ولاستمرارها أكثر من الفاشست الإسرائيليين، وتقوم المكنة الإعلامية الجبارة في أمريكا وأوروبا بتسويق أكذوبة الحرب ضد إرهاب المقاومة الإسلامية حماس، ويشايع بعض الإعلام العربي هذه الأكذوبة.
وحقيقة الأمر، ليست الحروب ضد حماس، ولا ضد غزة فقط، ولم تكن لتصفية القضية الفلسطينية على فداحة ذلك؛ وإنما هي حرب لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، كما أن مصر والأردن يدركان طبيعة الحرب وغاياتها، ولكنهما في لحظة ضعف وحذر شديدين. وطن المستبدين كراسي الحكم، بينما أوطان المستعمرين مصالحهم الممتدة إلى كل بقاع الأرض.
حرب غزة لا تعني فقط جنوب فلسطين، أو الضفة الغربية، فهي في جوهرها معركة حياة أو موت للاحتلال الاستيطاني والفصل العنصري، ورغم مجازرها البشعة، وتدميرها الشامل لكل شيء في فلسطين بما في ذلك الأحياء السكنية، والمستشفيات، والمدارس- فإن فشلها في التهجير يعتبر هزيمة لجنرالات الحرب الإسرائيليين، وهذه الحرب في نفس الوقت تشكل أهم دفاع عن آخر قلاع الاستعمار، ومستقبل سيطرة أمريكا وأوروبا.
الحرب التي تقتل في بضعة أسابيع ثلاثة عشر ألفًا نصفهم من الأطفال والنساء لا يمكن حصرها في حماس، كما أن تدمير كل شيء، وتقتيل كل معالم الحياة، والإبادة الكاملة الشاملة لا يمكن أن يكون هدفه إنقاذ حياة الأسرى الإسرائيليين. يرفض نتن ياهو إطلاق الأسرى مقابل إطلاق الأسرى الفلسطينيين من النساء والأطفال، ويرفض وقف الحرب أو الهدن التي تتيح الإفراج عن الأسرى، ولا يستجيب لمناشدات ومظاهرات واحتجاجات الشارع المطالب بالإفراج عن الأسرى بأي طريقة.
عميحاي الياهو - وزير التراث الإسرائيلي الداعي لاستخدام القنبلة النووية هو أكثر حكومة نتن ياهو "صدقًا"؛ لأنه يعبر عن حقيقة حرب الإبادة والإفناء، ويردد جنرالات الحرب، واليمين التوراتي أن الأولوية للحرب، ولو أدت إلى قتل الأسرى.
إن التصعيد للحرب يؤكد أن غايات الحرب أبعد من مجرد إبادة حماس، أو القضية الفلسطينية، وإنما إقامة الدولة اليهودية من البحر إلى النهر حسب المخطط الصهيوني. غرائبية هذه الحرب ومفارقاتها الراعبة أن قيادة اليمين التوراتي سموتريش- وزير المالية الذي طالب بإحراق (حواره)، وايتمار بن غفير- وزير الأمن القومي، ووزير الدفاع يواف غالانت، وعميحاي الياهو- وزير شئون القدس والتراث- يدعون علنًا إلى التسريع بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، ونبذ اتفاقيات أوسلو؛ وهو ما يريده اليمين القومي في الليكود والعمل، ويسعون إلى تحقيقه منذ ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي؛ فهو مبدأ أساس للصهيونية.
أما شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، فلا معنى له غير إنكار وجود شعب اسمه فلسطين، وإلغاء وجوده بالحروب والتهجير والتمويت بالحصار، وصولاً إلى التجويع والحرمان من الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود، كما هو الحال في الحرب الحالية.
حرب ما بعد الـ 7 من أكتوبر تفضح كذب ودعاوى اليمين واليسار القومي العلماني، والديني التوراتي، والاحتلال الصهيوني، ونظام الفصل العنصري فيما يتعلق بطبيعة الدولة اليهودية، وإصرار كل هذه الأطراف على تهجير كل الفلسطينيين عبر الحروب المستدامة إلى الجوار العربي، أو توزيعهم على الدول التابعة والمطبعة.
لا يمكن الاستهانة أو التقليل من أهمية الاحتجاجات داخل إسرائيل، والتبدل المحدود في المزاج الشعبي ضد طبيعة النظام، ومآسي الحروب، كذلكم الحال في المظاهرات والاحتجاجات في بلدان عديدة من العالم، وبالأخص في أمريكا وأوروبا الاستعمارية، ولكن المعول حقيقة على الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني؛ فهذا البلد يقدم أنموذجًا فذًا في كل حروب التحرير. فمنذ بدايات القرن الماضي، وهو يواجه مؤامرات، وحروب الاستعمار القديم والجديد، والمؤامرات الصهيونية والاستعمارية، لكن صبره وثباته وعناده يفوق الخيال.
خسارة الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة يعني هزيمة آخر دولة استيطانية في العالم، وآخر قلعة استعمارية لأمريكا وأوروبا. إسرائيل، وإن لم تكن عضوًا في الناتو، إلا أنها أهم لأمريكا من كل دول الناتو. فإسرائيل عبر اللوبي الصيهوني (ايباك)، وعبر الإنجيليين الصهاينة، وهم ملايين موزعون على الحزبين: الجمهوري والديمقراطي- تعتبر موجودة في قلب أمريكا، وأمريكا ترى في إسرائيل امتدادها، وجزًءا أساسيًا من قصة تأسيسها، وحماية مصالحها.
يرى المفكر العراقي عامر عبد الله أن إسرائيل لم تعد- كما هو معروف- ذلك المخفر الأمامي للامبريالية، أو ذلك التابع، بل دخلت في تكامل عسكري وسياسي واقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية، متجاوزةً في هذا النوع من التكامل الاستراتيجي جميع حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي.
ويدلل المفكر عامر بالاتفاقيات العسكرية، وإشراكها في حرب النجوم، والتكامل في الصناعة العسكرية المتطورة، واتفاقية التجارة الحرة، والتعاون الأمني. [المسألة القومية والوحدة العربية، جريدة الثقافة الجديدة العراقية، عدد 3 لسنة 1990، ص17]. هزيمة إسرائيل تعني هزيمة أمريكا وأوروبا، وأفول نجم الاستعمار، واختلال النظام الدولي القائم.