مقالات
سيناريو بغداد.. قاسم سليماني في صنعاء
يحاول الحوثي تكرار سيناريو بغداد في صنعاء، يعمل كوكيل مجتهد لأوليائه في طهران، يقيم الاحتفالات المشابهة لما يجري هناك، يرفع صور الرموز الفارسية، ولا يترك مناسبة إلا ويستغلها؛ كي يلوّن هوية المدينة بصبغة طائفية تماثله. هذه المحاولات لا تقتصر أهدافها على مستوى التكتيكات السياسية وإظهار التوجّه العام والمعروف للحوثي، كذراع إيرانية في اليمن، بل تهدف -بواسطة التراكم المتكرر لهذه السلوكيات- إلى تغيير الهويّة النفسية والاجتماعية للمجتمع، عن طريق إشاعة رمزيات شخصية في الجو العام، تكون بمثابة المصدر الأول للاستلهام المجتمعي وعامل أساسي في تكوين الصور الذهنية لدى المجتمع.
ما يقوم به الحوثي هو أنه يعمل بالتدريج على إعادة تعريف الشخصية اليمنية بشكل مفصول عن سياقاتها التاريخية وتراكمها الحضاري، وبناء رمزيات جديدة لها وغريبة عنها، ويستخدم لذلك كل الطرق، بما فيها: إعادة تعريف هوية المدن، وفي مقدمتها صنعاء.
حيث يجتهد الحوثي كي يصدِّر صورة مصنّعة عن صنعاء، باعتبارها صارت مدينة محسوبة عليه، وتدور في فلك المحور الفارسي قلبا وقالبا.
غير أنه يتناسى جوهر صنعاء كمجتمع ليس بينه وبين فارس أي ارتباط داخلي قابل للتكيّف مع مشروعها.
فسطوة الحوثي المسلحة على العاصمة اليمنية واستتباب الأمر له كطرف وحيد متسيّد، لا يقدمان دليلا موثوقا على أن الحوثي تمكن من تجيير مجتمع صنعاء وتذويبه داخل طائفته الخاصة.
إذ لا يوجد زيف أكبر من ولاء مزعوم يمنحه لك بشر خائفون من بطشك، فالصمت هنا ليس علامة الرضا بل الخوف، والخوف لا يوفّر إمكانية لاختبار الإرادة الحرة بالولاء، وعليه فحقيقة الوضع في صنعاء أقرب إلى اعتقال مجتمع أكثر من كونه حيازة حرة لولائه، أو تماهيا للمجتمع مع مشروع الجهة المسيطرة عليه، وما ترفعه من شعارات ورموز.
حسنا، لا يمكنك أن تُغيِّر هوية المدن لمجرد أن ترفع صورة لجنرال عسكري أجنبي هالك، في شوارع صنعاء، هذه السلوكيات الصبيانية، تجدي للمناكفة السياسية وخديعة الذات، غير أن تزوير التاريخ يحتاج ذكاء أكبر، أحافير بعيدة المدى تحتاج قوة غير طبيعية لقلب الحقائق وتغيير المجرى العميق للتاريخ، وتلك مهمة لن يترك لك اليمنيون فرصة لتحقيقها.
ما يحاول الحوثي تجاهله والقفز عليه هو حقيقة المجتمع اليمني الواقع تحت سيطرته، فمن المعروف أن الجزء الأعظم من البنية المجتمعية اليمنية لا تتقاطع مع التصور العقدي الطائفي للجماعة الحوثية، حتى جزء كبير من المجتمع القبلي المنخرط في الحرب مع الحوثي، والذي يشكل مخزونا بشريا لحروبه، لا يفعل ذلك من منطلقات عقدية؛ بل لدوافع سياسية وكنوع من التكيّف مع السلطة الغالبة للحوثي، دونما قناعات نفسية وأيديولوجية متوافقة معه.
قد يتغاضى اليمني مكرها على النهج الحوثي الحثيث، الرامي لتجريف هويته؛ لكنه يظل محتفظا بوعي داخلي ممانع وصامت ومتململ وغير قابل للتماهي مع المحاولات الحوثية لانتزاعه من جذوره، ومن يعيش داخل صنعاء ويتتبع المزاج العام للشارع، سيكتشف صورة داخلية مختلفة عن تلك الصورة التي يعمل الحوثي على إشاعتها، كما لو أن صنعاء صارت حوزة إيرانية خالصة لوجه الخميني.
هناك فكرة أخرى مهمة تؤكد المؤكد، من خلال الحرص الحوثي على الاحتفاء المبالغ به في ذكرى مقتل سليماني، وهو أن الحوثي مهما ادعى استقلاليته السياسية وتحرره في علاقته بإيران، وأنه أفضل من خصومه في معسكر الشرعية وعلاقتهم بالتحالف العربي، غير أن الواقع يقول إن تبعية الحوثي لإيران تجري في داخله مجرى الدّم، وهي تبعية سياسية وعسكرية وأيديولوجية معا، ما يجعلها تصل إلى درجة الذوبان الكلي في معسكر إيران وليس فقط الاستلاب والتبعية، وبهذا تسقط خرافة السيادة الحوثية المدّعاة، ويتأكد لنا أن الحوثي ليس أقل ارتزاقا من غيره، وإذا كان الآخرون مستلبين بالإغراء والإكراه، فالحوثي مستلب برضا تام وغبطة.
وليس مهما، في هذا المقام، ما إذا كانت تبعية الحوثي لإيران تحدث بطرق الضغط والإكراه من قبل الحليف، أم الانسياق التام من قبل الحوثي نفسه كتابع، وإصراره على الظهور كنسخة شديدة التطابق مع أذرعة إيران في المنطقة، ففي الحالتين نحن أمام جماعة لا يمكنها ادعاء أي تفوق أخلاقي ووطني على خصومها.
فعلى الرغم من أن الحوثي يتواجد في مجتمع مفارق للتوجّه الإيراني عقديا، ولا توجد حاضنة شعبية واسعة وحقيقية للمشروع الإيراني في اليمن، على عكس ما هو عليه الحال في بغداد وبيروت، إلا أنه يرفع رصيد ولائه لحلفائه في طهران على حساب ولاءات الناس الحقيقية ويزيف التاريخ ليثبت مصداقيته ويرفع بندقيته في وجه كل من يقول له: هذه ليست صنعاء التي نعرفها، فالصورة المصدّرة عنها هي صورتك أنت وليست هوية المدينة الحقيقية وناسها.
أخيرا: أردنا تذويبكم في الهوية الوطنية للبلاد، وتصرون على أنكم دخلاء، نذكركم بالثلايا والنعمان والزبيري وترفعون أمامنا صور قاسم سليماني وحسن نصر الله والخميني، أترون، لسنا من يتجنى عليكم، حين نقول إنكم مقطوعو الصلة باليمن واليمنيين، بل أنتم من تجردون أنفسكم من الهوية اليمنية، وتعرفون أنفسكم كدخلاء على هذه البلاد التي احتضنتكم منذ زمن.