مقالات
طارق عفاش عارياً في الساحل
يعتقد طارق عفاش أنه أذكى من الجميع، يحاول الرجل اتقان الفهلوة في الزمان والمكان الخطأ، يعرف جيدا أنه ما يزال قوة عسكرية مستحدثة ومجردة من أي تاريخ نضالي حقيقي، أشبه بقوة استعراض ناشئة وتتمدد في نفس منطقة نموها، بلا أي فعل يمتحن صدق شعاراتها ويثبت جدارتها بما تعلن عنه أو تدعيه.
منذ ثلاث سنوات، وطارق عفاش يخطب في الساحل، من يكتفي بمتابعة خطابات الرجل، سيُخيّل لوهلة أن الجنرال يتحدث مستندا لذاكرة عامرة بالملاحم، ذلك أن مستوى الخطاب المقدّم، يبدو كما لو أنه تمثيل رفيع النبرة لواقع زاخر بالفداء والتضحية، فيما الحقيقة العارية تبدو مخجلة، فلو حاول المرء التفتيش عما يمنح جنرالا عاطلا كل هذه الثقة في الحديث، وما يبررها، وما قد يدعيه لنفسه من استحقاقات مستقبلية، لن يجد شيئا، باستثناء حقه النظري في مقاومة الحوثي.
في البدء، أعلن طارق عفاش انحيازه للمعركة ضد الحوثي دون أن يطلب إذنا من أحد، وذلك حقه بالطبع كمواطن ليس عليه مبدئيا أن يتسوّل حقه الطبيعي في الدفاع عن وجوده من أي جهة. تحديدا حين تكون متطلبات المعركة الواقعية أكثر إلحاحا من استيفاء شروط الانضمام للشرعية وإجراءاته الإدارية والبيروقراطية المعقّدة، وحتى ما إذا كان في انخراطه المباشر بالفعل المقاوم تجاوز لمتطلبات النظام العام ومقتضيات الترتيب اللازم لوحدة المعركة، إلا أن منجزات الواقع كانت لتسد فجوات الإدارة، وتُقلص مخاوف الدخول المرتجل على خط المعركة.
على أن منجزات طارق عفاش -إن وجدت- كان يفترض أن تقدم الحضور الفاعل لقواته على الأرض -حد زعمه- قبل استكمال البعد النظري في عملية التحامه بالشرعية، حيث يفترض أن تكون مقاومته المدعاة للحوثي سلوكا يمهد للانتظام الإداري السلس، وبشكل أكثر سهولة، وبالطبع بالتوازي مع استمرار سريان الفعل المقاوم للحوثي، حيث الشرعية العملية هنا تسند الشرعية النظرية، وتُحيل هذه الكتلة العسكرية لوحدة متجانسة ومتناغمة مع القوة الأساسية التي دشنت الفعل المقاوم منذ البداية.
إلا أن ما حدث طوال الثلاث السنوات الماضية منذ تشكل ما يسمى "القوات المشتركة" في الساحل، هو نقيض كامل لما كان ينبغي أن يحدث، فلا هي واصلت مراكمة فعلها النضالي الواقعي ضد الحوثي ولا استكملت تناغمها الإداري والسياسي مع الجيش المناهض للحوثيين في مناطق أخرى، ووجد الجميع أنفسهم أمام خطاب مناور لا يُسعفك سلوكه الواقعي على أن تصيغ منه حكاية تفسيرية متسقة تكشف وجهة القوة وسياستها.. ما الذي يريده طارق عفاش؟ من أجل ماذا يكدّس القوة في الساحل؟ ذلك أنك أمام خطاب هو أقرب إلى التضليل السياسي منه إلى البيان الصريح والقول الذي تتحد فيه الكلمة بما يُفصح عنه الواقع.
في مواطن الربح، لا يستأذن طارق عفاش الشرعية ولا يأتمر بتوجيهاتها، لكنه حين يتعلق الأمر بنداء التضحية، يتحدث كتلميذ مهذّب ومنضبط ولا يتجاوز تعلميات مُدرسِه، فيما العكس هو ما كان ينبغي أن يحدث، فالقوة النضالية الخالصة يتضاعف اندفاعها لحظة الفداء، بأكثر ممّا تتزاحم عند الغنيمة. لكن سلوك طارق عفاش عكسي دائمـا، فهو يتعلل باتفاق ستوكهولم؛ وينسى أن عجزه النظري المزعوم لا يبرر تخاذله عن إسناد مأرب مثلاً. فالجمهورية التي يرفع شعارها، وهو يتجول آمنا في الساحل، لن تكون آمنة في الغد فيما لو سقطت مأرب.
لقد شكّل طارق عفاش ذاته وقواته ابتداءً؛ تحت مبرر الواجب التاريخي للنضال ضد الحوثي، لكن هذا المبرر المبدئي ومصدر تشريعه الأساسي في الوجود صار ملغيا بالنظر إلى العطالة العملية لقواته المشكّلة. من الواضح أن طارق عفاش هنا لا يواجه استجواباً خارجياً من الأطراف التي يدّعي مشاركته لها في الهدف ذاته بقتال الحوثي دون أن يثبت ذلك عملياً؛ بل يجد نفسه أمام قوة عارية كلياً من أي مشروعية ولو ذاتية.. طالما هو مجمّد قواته عن أي قتال ضدها.
في الحقيقة، إذا أردتم أن تفهموا طارق عفاش ضعوا خطابات الرّجل العنترية جانباً، تجاوزوا ما يقوله وترصدوا ما لم يقله، فجوهر توجّهه لا يكمن فيما يُفصح عنه، بل فيما يصمت عنه.. يقول إنه لا عدو له سوى الحوثي، هذا صحيح، غير أن عداوته النظرية للحوثي لا تُثبت الضد ولا تعني بأي وجه من الوجوه صداقته لمأرب.
إنه عدو عدوّك، وذلك ما لا يمكنك التشكيك به؛ لكنه ليس صديقك وذلك ما لا يُمكنه أن يُثبته، ولا يمكنك أن تغضّ الطرف عنه.
يراقب طارق عفاش وضع مأرب، وهي في أشد لحظاتها للإسناد؛ لكنه يكتفي كعادته بعروضه النظرية فحسب، يريد طارق أن يقبض النتيجة دون أن يدفع الثمن، فيتجلّى كبطل بلا ملحمة، كمنتصر بلا معركة، كصديق يتأهّب لمقاسمتك المكسب، دون استعداد لمشاركتك الثّمن لحظة انخراطك في المنازلة، هذا السلوك الملتوي ليس سياسة متذاكية فحسب، إنه نوع من اللؤم المكشوف والفهلوة المستفزة.
يضخ طارق عفاش خطابات متتالية وذات نغمة موحّدة تركّز على الحوثي كهدف وحيد ومركزي، يريد الرجل أن يرسّخ صورته كمحارب مغوار، ويراكم مدوّنة خطابية ضد الحوثي لا ينقصها جودة الإبهار والصياغة المحكمة؛ لكنها تنتشر كحكاية في الهواء، قصة نسجتها الذات عن نفسها، وفرضتها قسراً على الواقع كتعريف تُقدِّم به ذاتها، ولو كان مناقضاً لما هو عليه سجلها النضالي العملي.
باعتقادي لم يعد طارق عفاش بمثابة صديق مفترض يتابع أخبار مأرب ويكتفي بنذالة الخذلان فحسب؛ بل صار أقرب لخصم ينتظر انكسارك؛ ليثبت تماسكه.. فعلى النقيض من خطابه، يقول سلوك الرجل إنه لا يُقدّم نفسه كقوة متّحدة مع مأرب، بل موازية لها، وربما بديلة ووارثة لوزنها السياسي فيما لو انكسرت.
أغلب الظن أن طارق ينظر إلى صمود مأرب كنوع من إثبات الجدارة، وبما يعزز ثقل حضورها السياسي واستحقاقات الصمود، وهو أمر يُقلص -بلا شك- من المساحة المحتملة التي يطمح الرجل لحيازتها، أو على الأقل انتصار مادي يُبقي مساحته ووزنه السياسي محدوداً، كما هو الآن، بعكس ما لو انكسرت مأرب، ستميل الأنظار نحو القوة الشمالية الأخيرة والمحافظة بثقلها متمثلة في طارق عفاش، ما يرفع حظوظه في نيل حظوة أعلى، باعتباره وارث مجد مأرب المنكسر، أو قوة بديلة وموازية لها كما أسفلنا.
هذا الحديث ليس هواجس ومخاوف ذاتية لاواعية تُعبّر عن المتحدث بأكثر مما تُشرّح الجهة موضع الحديث، إنما هي قراءة تنطلق من معاينة الواقع، بالنظر إلى طبيعة اللحظة الحرجة المحيطة بمأرب، ثم مقارنتها بطبيعة خطاب طارق عفاش، ستجده يتحدّث باللهجة ذاتها، تلك التي كان يفضفضُ بها والجيش يُطل على نقيل بن غيلان.
لقد تغيّرت معطيات كثيرة، وانقلبت موازين عديدة، ووصل التهديد حتى آخر متارس مأرب.
والرجل يعضّ الكلمات نفسها، كما لو أنه وجه العملة الأخرى لعدو يُمعن في السخرية منك، يراقبك تتحلل، فلا هو يسعفك ليخفف كربتك، ولا يكف عن تلويحته اللئيمة لك.
لقد صُمم لطارق عفاش خطاب مخاتل منذ البداية، يرفع سقف لهجته ضد العدو، كفائض لغوي محتال؛ يعوّض به فضيحة جموده الواقعي، وربما جبنه وانتهازيته.
هذا النوع من اللعب غير قابل للديمومة في ظل واقع لا يكف عن استجوابه لإثبات مصداقية الخطاب. خطابك أيها المتذاكي ممكن التمرير في لحظة واحدة، لحظة غياب ما يستدعي الحضور.
وهل ثمة لحظة أشدّ امتحاناً لك من هذه اللحظة التي تعيشها فكرة الجمهورية، هل تعتقد أنك ستنجو بالقول من حرج الجواب الفعلي؟ هل اسطوانة "استوكهولم" ما تزال قادرة على تسويغ جبنك، وفهلوتك، ونواياك المضمرة؟!!
أظن الجميع يفهم هذه الفكرة المبدئية، هي أن الشعوب والكيانات الفاعلة في اللحظات التاريخية تمزّق كل القيود التي تكبّلها، بما في ذلك المعاهدات التي يجعلك الالتزام بها أمام تهديد وجودي، فهل ينتظر طارق الحوثي كي يكمل مأرب ثم يتوجّه لكسره في الساحل، كي يتجاوز "استوكهولم" وغطاءه التبريري المضحك؟!! والحقيقة هي حتى لو لم يكن هناك "استوكهولم" ما كان الجنرال اللئيم سيتحرّك.
أخيراً: أتتبّع خطاب الكتيبة الإعلامية المحيطة بطارق عفاش بشكل دقيق، وألحظ نغمة موحّدة تنبعث من وسط أحاديثهم جميعاً، خلاصتها تكشف طبيعة مواقفهم الباطنية تجاه المعركة العامة في البلد، وسياسات "القوات المشتركة" في الساحل بشكل عام.
حين يواجه الفريق الإعلامي لطارق عفاش السؤال عن سبب إصراره على بقاء المعركة مع الحوثي متجمّدة، سرعان ما يجيبونك:
لم لا يتحرّك الجيش في شبوة، وتنسحب القوات من أبين؟ ماذا عن ألوية "ميدي" وحجة وصعدة ولم لا تُفعّل؟ ثم ما هو وضع تعز؟
هذه النّبرة السياسية المقامرة، ليست خطاباً لمنظمة مدنية تطالب بالمساواة الحقوقية، وإلغاء الفروق الجندرية بين الجنسين، بل محتوى خطابي لقوة عسكرية تدّعي الولاء للإطار العام للشرعية، والدفاع عن الجمهورية، وحتى بعيد عن الشرعية، فزعيم هذه القوّة لا يكف عن مخاطبة الجمهور العام في البلد بحديث يتخذ من مناهضة الحوثي أهم رافعة سياسية تؤطّر وجوده.
لكن طارق عفاش وفريقه مع كل ذلك، حين يقع وجهاً لوجه مع سؤال حياد قواته عن المعركة، يسحب النقاش بعيداً، ويتحوّل لمفتش حقوقي أو هيئة رقابية مهمتها التأكد من وضع القوات الأخرى، وهذه فكرة إذا وقفت معها ستكتشف دوافعهم في الجمود، وهم يسألون: هل كل الجبهات صارت تحترق تحت نيران الحوثي؛ كي يقرر حينها ما إذا كان عليه التدخل في النهاية، إما بعملية مناوشة محدودة يُقدِم عليها كتلويحة أخيرة قبل انتهاء المعركة، ثم يقعد بموجبها ليطالب باستحقاقات المشاركة، أو يحضر في اللحظة الحاسمة لتشكيل اللوحة النهائية للنّصر، والظهور بصورة البطل، وقد صار الجميع منهكاً، ما عداه هو.
أغلب الظّن أن طارق عفاش يُعد نفسه ليكون القوّة الوحيدة المحتفظة بعدّتها ومخزونها العسكري، بعد أن يكسر الحوثي الجميع، معتقدا أنها ستكون لحظة الدعوة إلى تفاوض سياسي، يتمكّن الرجل بموجبه من أن ينتزع قطعة كبرى من الكعكة.
فالرجل ما يزال يفكّر بعقلية السكين والغنيمة، تماما كما كانت ذهنية عمّه، ذلك المتحذلق الذي اعتقد أنه سيترك طرفا يضرب آخر ليحضر ويحسم اللعبة لصالحه في مراحل تاريخية عديدة.. لكن ما لم يتعلّمه طارق هو أن الحوثي عدو يلعب لعبة صفرية، وأن الساحل لن يصمد شهراً وربما أسبوعاً أمامه، وحينها سيسجد طارق لمأرب معتذراً لها ولو بأثر عكسي، فهي الوحيدة التي صمدت طيلة 7 سنوات، وليته يعلم أنها حائط صد عنه وغطاء لعريه في الساحل.. ليته يتحرّك الآن، ولا أظن أحداً سيرفضه.