مقالات
عدالة الحوثي مخرومة
يتباهى الحوثي بسرعة إنجاز العدالة في قضية الشاب الأغبري، يعتقد أن تنفيذ حكم الإعدام بمثابة شهادة سياسية لسلطانه العادل والحازم، هذا السلوك الخادع لا يقنع به الحوثي أحداً سواه، إذ ما من صفة عدالة يمكن أن يتلبسها الحوثي بهذه السهولة، مهما حاول تسويق نفسه بهذه القضية أو تلك، والظهور بمظهر السلطة المحققة للعدالة بين الناس.
في الحقيقة، لا يمكن لسلطة يخاصمها ملايين اليمنيين أن تغدو بيوم وليلة سلطة تحوز رضاهم، وتؤتمن على مصائرهم، ذلك أن بحر الجريمة الحوثية أغزر من أن يتلاشى لمجرد أن تنجز عدالة ما فردية ولا تمسّ جوهر السلطة؛ أي أن جوهر العدالة في السلطة مفقود، ولا يمكن ترميمه بحادثة أو اثنتين أو حتى عشر.
على مدار التاريخ، تصادف السلطات المستبدة حوادث كثيرة فردية ومتفرّقة، لا مصلحة لها في التلاعب بها، بل يكمن الربح أحياناً في إنجازها، قضية الأغبري نموذجاً. ولهذا لم تجد السلطة الحوثية حرجاً في الدفع بالقضية نحو مسارات حاسمة؛ كي تقدِّم نفسها للجمهور بصورة تناقض طباعها الأساسية، ويرتدي القتلة أزياء العدالة، فيما أياديهم ملطخة بالدّم، لكنهم بالطبع لا يخجلون من ترويج أنفسهم كحُراس للعدالة.
ما يحاول الحوثي تناسيه اليوم، ومنذ البداية، وربما تدميره، هو أن العدالة في الزمن الحديث لم تعد سلوكاً فردياّ تقوم به سلطة غير مخوّلة شعبياً بالنظر في قضايا الناس، بل تتمثل العدالة في بنية مؤسسية متكاملة ومنظومة سلوكية متعددة، ابتداءً من شرعية السلطة نفسها، وليس انتهاءً بالسلوك العام إزاء المواطنين في كل صغيرة وكبيرة.
كيف يمكنك إقناع مواطن يشكو من غياب أخيه قسراً منذ سنوات في سجون الحوثي ، وآخر فُجر بيته، وثالث نُهبت أمواله، ورابع قُتل بدم بارد من قِبل مسلح تابع للجماعة الحوثية، وخامس نفته الجماعة ذاتها من بلده، كيف يمكنك إقناع هؤلاء أن تطبيق الحوثي حكم الإعدام على قتلة الشاب الأغبري دليل سلطة عادلة.. أليست هذه عدالة مخرومة..؟
أعدم الحوثي قتلة الأغبري، لا بأس، فلتهدأ نفوس الغاضبين تجاه القتلة، لكن ما لا يجب أن تهدأ له النفوس هو سلوك الجماعة الراعية لتنفيذ الحُكم، سلوكها العام كعصابة تُمارس القتل يومياً منذ سنوات، وكانت وما تزال المتسبب الأول والأبرز بهذه الحرب الطاحنة بكل ما خلّفته من كوارث بلا حد.
تطبيق حكم الإعدام على قاتل هنا ومجرم هناك ليس شيك براءة ولا حدثاً تتطهر به الجماعة من جرائمها، ففي كل الأحوال يظل الحوثي جماعة غير مؤهلة أخلاقياً لتطبيق العدالة، فهي جماعة تأسست على البطش، وتاريخها معمّد بالدَّم، وبما يجردها من أي ادعاءات سلوكية بيضاء تحاول التدثّر بها أمام عواطف الجماهير المكلومة.
من زاوية أخرى، وبعيداً عن موقفنا من قضية الأغبري، وتأيدينا لحكم الإعدام من عدمه، هناك نقطة أخرى مهمّة تتصل بالقضية ذاتها، حيث الشيء المُهم الذي يجب التحذير منه والتنبيه عليه، هو أن المشاط - رئيس المكتب السياسي للجماعة- هذا المراهق السلالي، لا يملك الحق ولا المشروعية ولا الأهلية للمصادقة على حكم الإعدام الصادر، بصرف النظر عن عدالة الحُكم.
فطوال سنوات، ظلت المصادقة على أحكام الإعدام معلّقة، بسبب غياب الحاكم الشرعي. إلا أن العصابة الحوثية أخيراً تجرأت على اقتحام آخر صلاحية شكلية من صلاحيات الحاكم المنتخب، والمصادقة على أحكام الإعدام.
حكم الإعدام في أحد معانيه هو تعطيل إرادة الإنسان، ونفي حياته، وهذا الفعل، لما يعنيه من قدسية، يتوجّب أن يصادق عليه حاكم يملك تفويضا شعبيا عاما، أي أن المجتمع منحه إرادته وأتاح له صلاحية التحكم بجزء منها، والمصادقة على أحكام الإعدام تدخل ضمن هذا الحيِّز.
المشكلة هي أن قضية الأغبري، بما تضمّنته من شحنة غضب شعبي، وبقدر ما تكون المسارعة في محاكمة وإعدام القتلة ميزة عامة؛ لكنها تمنح الجماعة سلاحاً لتصفية خصومها والمصادقة عليهم؛ بطريقة غير قانونية.
المشاط وغيره مكانهم الطبيعي أن تُكتّف أياديهم، وتستقبل رقابهم سيف القانون، مثلهم مثل أي مجرم بهذه البلاد، وليسوا حُراس عدالة.
الخلاصة: مهما حاول الحوثي استثمار قضية هنا وحادثة هناك؛ كي يُرمم صورته الأخلاقية المشوَّهة، علينا أن نحرص على كشف الآعيبه، ونعمل على تجريده من أي مكاسب أخلاقية يحاول التربّح بها من مظالم الناس، فلا شيء يمكنه أن يطهّر هذه الجماعة من لوثتها حتى لو ارتدت ثياب عمر ابن الخطاب -مع كونهم لا يحبون عمر- وأشهرت سيف الحق في كل قضية، ففي كل حالاتها لا يمكنها أن تحجب عن الناس حقيقتها الجوهرية، كجماعة ليست مجرمة فحسب؛ بل وراعية للجريمة، وليس ثمة صفة بعيدة عنها مثل بُعدها عن أي سِمة من سِمات العدالة.