مقالات

عن نقمة الجماهير وبراءة القاتل

02/08/2024, 08:12:51

أفهم مشاعر الجموع الغاضبة، من يطالبون باعدام القاتل. من حقهم أن يغضبوا، أنا غاضب مثلهم، كما أحب هنا تأكيد فكرة أراها مهمة، هو أنّ هؤلاء الغاضبين ليسوا أشرارا يتلذذون بالنقمة وليس من يدعوا للتسامح مع القتلة أكثر إنسانية منهم. إن هذه الجموع وبقدر غضبهم وحتى مشاعرهم البدائية تجاه العدالة، لا بد أن يشعروا بالرهبة والذهول، فيما لو تم تم تنفيذ حكم الإعدام. 

فبعد أن يقضي الناس أيام كثيرة في حماسة عالية، يطالبون بروح واحدة باعدام القاتل.. تنتابهم مشاعر مختلطة حين يتحقق الحكم النهائي. وفي الحالتين سواء تم تنفيذ الحكم أو العفو، تجد الناس ساخطين ولا يشعرون بالرضى. هذه الحيرة؛ تعكس حرج الموقف وازدحام مشاعر متناقضة في نفوس البشر. متذبذبون بين الرغبة بمعاقبة القاتل والشعور بالأسى على مصير أبناءه. حزينون على الطفلة التي تعرضت للقتل وحائرون في عواطفهم تجاه أطفال الجاني. 

والقاتل هنا إنسان أغضبهم بالطبع، لقد ارتكب شرًا وتسبب في اخافة المجتمع، وحين يطالبون باعدامه؛ ليس لأن إعدامه سيعيد الحياة لمن قُتل على يديه. بل كي يعيد الأمان لمجتمع خائف. القصاص ليس انتصارا للقتيل؛ بل تأمينًا عامًا لمجتمع كامل، انتصارًا للعدالة واشعارًا للبشر أن حياتهم مقدسة ومن يعتدي عليها، يتوجب تجريده من حياته الخاصة. 

أفكر في هذا، فكرة العدالة وما تتطلبه من حزم، وأفكر في تلك الحالة الشعورية للبشر، بعد أن يشهدوا حادثة الاعدام. حتى أشد الناس حماسة لتطبيق حكم الاعدام، لا بد أن يشعروا بحالة من الوجوم الكبير، إحساس عميق بالذهول، فللموت رهبة غريبة مهما كانت طبيعته. حتى أقارب الضحية الذين يتمسكوا بحقهم في اعدام القتلة، لا أظنهم يبتهجوا بعد أن يُطبق الحكم ويعودوا للبيوت. هذا طبيعي جدا، حيث القصاص عدالة مريرة، لا تبعث بهجة إنسان مهما كانت مظلمته..الظلم مر وقاس ويُفقد الإنسان أي إحساس بقيمة الحياة؛ لهذا كانت العدالة قاسية أيضًا؛ كي تعيد التوازن لفكرة الحياة المختلة. 

لعلّ ما يحتاجه المجتمع للتعامل مع جرائم القتل، هو تجنّب القسوة العاطفية المبالغ بها ضدّ القاتل، مع عدم التسامح إزاء مجريات العدالة بحقّه. التخفف الشخصي من تصويره كشيطان بالتوازي مع الصرامة في إخضاعه للقانون. ثم لا بأس من فتح مسارات تفاوض هادئة مع أصحاب الحق وترك الحرية لهم ليقرروا إختيار المصير الذي يرتصونه بخصوص الجاني. بهذه الحالة، سينجح الناس في التخلص من إرتباكهم الشعوري. إذ ليس من صلاحية المجتمع أن يغضب أكثر ولا أقل من غضب صاحب الحق. بل يلعب دور متوازن بين الطرفين. ففي النهاية مشاعر المجتمع الناقمة على القاتل أو الداعية للتسامح معه، هي تعبيرات ذاتية عن مخاوفهم هم ولا علاقة لها بالحرص على تحقيق العدالة أو التهاون فيها. 

غالبًا ما يميل المجتمع للمبالغة في إظهار رغبته بضرورة معاقبة المجرم بأشد أنواع الجزاء. وليس ذلك لكونهم قساة؛ بل بشر بكامل إنسانيتهم؛ لكنهم بشر مجروحين فحسب. لا يوجد شكّ حول رغبتهم بتحقيق العدالة؛ لكنها رغبة عمياء تنطلق من دوافع ذاتية غير منضبطة. هم متعطِّشون للعدالة؛ لكنهم أيضًا يرغبون بالتطهر من قسوتهم بواسطة هذا الإسقاط الهائج على أي مجرم يظهر أمامهم. 

والحقيقة أنّ هياج الناس ضد المجرم، ينبع من شعورهم الخفي، بوجود نزعة كامنة للجريمة في نفوسهم. إنهم خائفون من وقاحة المجرم ويخشون ظهور مجرمين أخرين لديهم نفس البجاحة في ممارسة الجريمة وخائفون من ذلك الميول الكامن فيهم نحو الجريمة نفسها. يُدرك كلّ الناس مدى هشاشتهم الذاتية. إنّهم يغضبون وينفعلون إزاء حوادث صغيرة تعترضهم ولا تكون المسافة بينهم وبين القاتل سوى درجات قليلة. لهذا يغضبون بشطط وذعر، حين يشهدون حالة للجريمة انفلتت فيه غريزة الشرّ لدى واحد منهم وسقط في الفعل. يتأملون فداحة الجريمة، وفي أعماقهم إحساس خفي بأنهم مهددون بالوقوع في الفعل نفسه. والحل يكمن في إظهار نبذهم الصارم والشديد للفعل المجرم؛ كي يُشددوا الحرمة على أنفسهم ويضاعفوا من الحواجز بينهم وبين تلك الهاوية. 

ليتني أستطيع أن أُقنعكم أن أكثر الناس إجرامًا فيكم، هو إنسان بريء أكثر مما تعتقدون. أيّ فكرة بمقدورها أن تُريكم كم أنّكم أبرياء، وأن الله لا يريد لأيّ نفس أن تنام خائفة حتى تلك التي فقدت سيطرتها على الفأس وتلطّخت أياديها بالدم. جميعكم أبرياء ولو لم تشعرون بذلك. حتى القاتل برئ، " لقد فعلها في لحظة خاطفة" لحظة شرود، زاغ فيها الذهن، وشعرت نفسه فجأة وقد وقعت الجريمة وانفتحت الهاوية. 

هل هو مجرم بالكامل...؟ لا. أغلب الظنّ، أنّ جزءًا صغيرا من نفسه أُصيب بالعَطب، منطقة بمقدار الزمن الذي هوى فيه الفأس وشجّ رأس القتيل. فقط، هي تلك اللحظة المظلمة، وليس من فساد الرأي، القول: إنّ باقي مساحة نفسه، كانت بيضاء وبريئة. إذا كان هذا القاتل، فكيف بكم، يا مساكين العالم. أولستم لوحات يُشِعّ النور من كل حوافها وعلى أطراف الأسِّرّة يسهر ملائكة؛ كي تناموا بسلام. أنتم أبرياء أيها الخائفون. والقاتل برئ، ذلك أن لا أحد مسؤول عن شيء، لا أحد خلق نفسه بتلك الصورة، والذهن حين يزيغ، فلأنّه مخلوق بقابلية للزيغ. أيكون الأمر خللًا في التصميم..؟ حاشا الرب أن يتقصد ذلك. لكنّ أيادي القاتل وهي تحمل الفأس؛ تُعاني هشاشة طبيعية. تذكّروا أن طبيعة التكوين، هشّة، حواس المخلوق عرضة للانزلاق لأدنى سبب في الخارج أو أدق حركة في الداخل. وكذلك هي نفس القاتل البرئية، هذا المسكين الخائف؛ يستحق أن ينام الليلة بسلام، فكيف بكم أيّها الخائفون سواه. 

جميعكم أبرياء ولو لم تشعرون بذلك. حتى القاتل برئ، " لقد فعلها في لحظة خاطفة" لحظة شرود، زاغ فيها الذهن، وشعرت نفسه فجأة وقد وقعت الجريمة وانفتحت الهاوية. لعلّه لاعب طفلة في الصباح وأدخل السرور على روح امرأة عجوز، رآها تقطع الشارع مترنِّحة وقد أثقلها الزمان؛ فساعدها على العبور للضفة الأخرى بسلام. وفي المساء وقعت منه الجريمة وشرِب الدم. لربما تكون حكاية الجدات سليمة، فعند الغروب، في تلك اللحظة الوشيكة حين يتعارك النهار مع الليل، تكون النفوس فائرة. تقول الجدّات: إنّ الشياطين تتزاحم لاحتلال المساحة. لربما شيطان هو حرّك ذراع القاتل المسكين فهوى الفأس ووقعت الجريمة الفادحة. 

أيكون القاتل شخصًا فاسد الطوية، روحه ملعونه للأبد. روحه بالكامل ملعونة. ما أقسى هذه الكلمة في هذا الموضع. " الأبد " كيف ينطمس كامل تاريخ الإنسان؛ لمجرد أنّ هشاشة حواسه؛ بلغت حدّها الأقصى، اندلعت القيعان وطفت على سطوح حواسه. وحدث ما حدث. هكذا هوى الفأس من يديه واصطدم بأخيه الإنسان. في أقل من دقيقة انفتحت الهاوية. لكنّه عاش قبلها سنوات كثيرة، وكان يحاول فعل الخير، يجتهد ليبدو شخصًا جيدًا، وفي المرات القليلة التي فعل فيها شرور صغيرة هنا وهناك، كان خائف ويحاول تبرير ما قام به ولم يُسجّل عنه أحد، أنّه قال: أنا مجرم، فاسد الطوية وأستلذ بممارسة الشرور. كان يحاول أن ينفي علاقته بكل سوء ويودّ لو يراه الناس شخصًا طيبًا. حتى وقد فعلها. يتمنى النوم بسلام، فما بالكم ساهرون وفي أعماكم تموج مخاوف الدنيا. جميعكم أبرياء ولو لم تشعرون بذلك. حتى القاتل برئ، " لقد فعلها في لحظة خاطفة" لحظة شرود، زاغ فيها الذهن، وشعرت نفسه فجأة وقد وقعت الجريمة وانفتحت الهاوية. 

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.