مقالات
غزة.. صبر وعناد أسطوري
لا أعتقد أنَّ مُنظرًا أيديولوجيًا، أو قائدًا عسكريًا، أو مناضلًا في حرب تحرير شعبية، أو حتى زعيمًا سياسيًا، هو من قال: «إنَّ شعبًا صغيرًا يمتلك إرادة التحرر من الاستعمار لا تستطيع أقوى قوة في العالم أن تَكسِرَ إرادته».
إنَّ من أكّد هذه المقولة هي مقاومة أمم وشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية للاستعمار القديم والجديد. فتجارب حروب التحرير في القرن العشرين – قرن التحرر الوطني – هي من دوّنت المقولة: «إنَّ شعبًا صغيرًا يستطيع هزيمة إمبراطورية». وقد شهدت عشرات الشعوب في القارات الثلاث – آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية – على صدق المقولة، وكان من آخرها كفاح الجبهة القومية في جنوب اليمن ضد بريطانيا العظمى.
المأساة الحقيقية أنَّ مجرد خروج المستعمر الأجنبي لا يعني بالضرورة التحرر السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي؛ فالقوى الوطنية التي ورثت المستعمر الأجنبي حافظت على إرثه الاستعماري، وربما تفوقت على أساليبه الاستغلالية والقمعية، وتركت الكثير من الشعوب المُحرَّرة تتحسر على المستعمر الأجنبي. وكان نصيب الأمة العربية من هذه التركة ثقيلاً ووبيلاً، وكان أخطرها وأشدها كارثية تأسيس الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية (فلسطين) لعزل مغربها عن مشرقها.
ولِيكون الاحتلال الإسرائيلي حارسًا للمصالح الاستعمارية، وعائقًا حقيقيًا أمام التنمية والبناء والتحديث واستقرار الأمة وتوحدها وسلامها وسيادتها.
تخادم الاستعمار العالمي والإمبريالية مع «الاستعمار الداخلي» – كما يسميه مفكرو أمريكا اللاتينية – حتى وهما يتحاربان، لتدمير الكيانات الوطنية في العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، واليمن، ولبنان. وكانت حرب 1967 الكارثة القومية المتواصلة، ولم يكن طوفان الأقصى هو البداية الحقيقية؛ فجذر المشكلة يعود إلى مؤتمر بازل 1897، ووعد بلفور 1917، واتفاقية سايكس بيكو 1916، ونكبة 1948، وهزيمة 1967، وما تلا هذه الكوارث.
طوفان الأقصى – 7 أكتوبر 2023 امتداد للكفاح القومي الفلسطيني المتواصل منذ مطلع القرن الماضي. فكتائب عز الدين القسّام تعود إلى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وأبناء وأحفاد عز الدين القسام هم من يقاومون اليوم رابع جيش في العالم، والمدعوم بقوة أمريكا ومساندة الاستعمار الأوروبي.
سردية حصر المقاومة في حماس، والإصرار على جعل «طوفان الأقصى» هو البداية، كذبة كبرى ومحاولة لطمس التاريخ والاستهانة بذاكرة العالم والشعب العربي، وبالذات الشعب الفلسطيني.
المكينة الإعلامية الجبارة الأمريكية والأوروبية هي من تُروّج مثل هذه الأكاذيب، وتتساوق معها وسائل الإعلام التابعة، حتى العربية منها.
طوفان الأقصى امتداد لكفاح قومي لأكثر من سبعين عامًا ضد آخر استعمار استيطاني قائم على التمييز العنصري والتطهير العرقي وإبادة شعب بكامله، وإجباره على النجاة من الجحيم الذي صنعه الكيان الصهيوني بمشاركة أمريكا ودعم الاستعمار الأوروبي.
في الأيام الأولى للطوفان، اعتقد الكيان الصهيوني وأمريكا وأوروبا الاستعمارية أنهم قادرون على محو غزة من الخارطة. فـ«رابع جيش في العالم»، مدعوم بالقوة الأمريكية فائقة القدرة، مسنود بالقوات البريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية، التي غطّت سماء غزة ومؤزرة بالأقمار الصناعية التي ترى دبيب النمل وما تحت الأرض وفوقها، قامت بإلقاء مئات الأطنان من القنابل على رؤوس المدنيين والأطفال والشيوخ.
نحن العرب المسكونون بالفجيعة اعتقدنا أن صمود غزة والمقاومة لثلاثة أيام يعني قدرًا كبيرًا من الصمود أمام جبروت قوى العصر. لكن مرّت الشهور، واستطاع الجيش والأمن الإسرائيلي، مسنودًا بالقوة الأمريكية، تدمير غزة شبه كامل، وقتل أكثر من ستين ألفًا – غالبيتهم من الأطفال والنساء والعجزة – وفرض حصارًا شاملًا على الرقعة الضيقة، ومع ذلك صمد أهل غزة وصبروا على القتل اليومي، والتشريد المتكرر، وتهديم الخيام التي لا تستر عورة، ومنع وصول الماء والغذاء والدواء.
لم يهرب الغزيون من جحيم ترامب ونتنياهو، ولم تستسلم المقاومة. فضل الفلسطينيون في غزة والضفة الموت على مغادرة وطنهم الذي شُرّدوا منه أكثر من مرة.
اخترعت إدارة ترامب وقادة إسرائيل ما سموه «مساعدة غزة الإنسانية»؛ وهي قوة عسكرية وأمنية تقوم بتقتيل الجوعى طالبي الغذاء من الناجين من القصف.
واجه الفلسطينيون الغزيون كل أساليب الإبادة الجماعية ونهج التمييز العنصري والتطهير العرقي، ومع ذلك صمد الغزيون واستمرت المقاومة.
صمود الغزيين ومقاومة الشعب الفلسطيني، وعجز «الجيش الرابع» في العالم بالتحالف مع القوة الإمبريالية الأولى في العالم ونفوذ الصهيونية العالمي، عن قهر إرادة الشعب الفلسطيني الأسطوري؛ فحرب الإبادة غير المسبوقة في العالم، والتي تزري بحروب التحرير والحروب الكونية، قابلها الفلسطيني الأعزل بالعناد، ورفض الهروب من الجحيم، وظلت المقاومة صامدة تفاوض الطغيان الكوني.
لا يتفوّق على حرب الإبادة – التي امتدت إلى كل معالم الحياة – إلا صبر وعناد أهل غزة وقدرتهم على تحمّل جحيم ترامب ونتنياهو.
هناك الآن بداية يقظة في الضمير العالمي وصحوة كونية؛ فقد تلعثم صانع الجحيم ترامب وهو يتحدث في الطائرة عن صور أطفال فلسطين المقتولين بالجوع. وكان مؤتمر فرنسا والسعودية في نيويورك عن «حل الدولتين» مؤشرًا إيجابيًا، وجاءت تصريحات رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر – زعيم حزب العمال – الذي يحمل على كاهله المسؤولية التاريخية عمّا حل بفلسطين، حسب تعبيره، لتضيف بعدًا جديدًا.
بدأت أوروبا الاستعمارية – الحليفة والسند الدائم للكيان الصهيوني – تتبرأ من «الهولوكوستات» التي تصنعها النازية الإسرائيلية-الأمريكية في فلسطين على مدى ما يقرب من عامين، بل على مدى أكثر من سبعين عامًا. ولا شك أن صبر وعناد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة واستمرار المقاومة، والاحتجاجات الإسرائيلية والأوروبية، وإلى حد ما الأمريكية، هي أساس هذا التحول، وللضغط الدولي دور أيضًا.
واجبٌ الإشادةُ بالمساندة اليمنية والاحتجاجات الشعبية المتواصلة؛ والأهم إغلاق باب المندب أمام السفن الأمريكية والإسرائيلية والسفن الأخرى المتجهة لإسرائيل.
إنّ العجز عن تهجير الشعب الفلسطيني، وانسحاب جيش الاحتلال من غزة، وفتح المعابر، ودخول المساعدات كما هو متوقع، ووقف الحرب، وفرض ديمومة السلام – حسب اشتراطات رئيس الوزراء البريطاني – ورفض الاحتلال، يعدّ هزيمة للمشروع الصهيوني.
تلعثم صانع الجحيم ترامب في الإجابة عن مجاعة أطفال غزة مؤشر خيبة أمله في الحصول على «ريفييرا غزة».
العجز الواضح عن تنفيذ مشاريع مثل «قناة بن غوريون» وطريق الهند البديل لطريق الحرير، والأهم فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشّر به كتابا شيمون بيريز «الشرق الأوسط الجديد» ونتنياهو «مكان تحت الشمس»، والذي اتفق عليه ترامب ونتنياهو في رئاسته الأولى… هل يعني ذلك بداية نهاية انتصارات إسرائيل وهزيمة «الجيش الذي لا يقهر»؟