مقالات
فلسطين وتجبر التفاوض
عبر تاريخ ممتد لأكثر من خمسة وسبعين عامًا، عجزت القوة الإسرائيلية المولودة في أحضان الاستعمار وقوته فائقة القدرة، ومكنته العسكرية الأكثر تطورًا وحداثة وقوة تدمير. عجزت العصابات المدربة والخبيرة والأكثر همجيةً وتوحشًا عن طمس القضية الفلسطينية: «الهجاناه»، و«شتيرن»، و«الأرغون»، وهي العصابات التي شكلت الجيش الإسرائيلي، الذي قام بدوره في بناء هذا الكيان.
منذ اصطناع هذا الكيان، حرصت القوى الاستعمارية على حداثته وتطوره وتفوقه عسكريًا، وحداثة نظامه على الدول العربية مجتمعة، بالقدر الذي حرصت على بقاء البلدان العربية مفككة ومتخلفة ومحكومة بأنظمة فاسدة ومستبدة معادية لشعوبها وأمتها العربية وبحاجة إلى الحماية.
اعتمد التفوق الإسرائيلي على الإفراط في التوحش والإرهاب والتدمير بحماية بريطانيا، ثم أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.
رفض الزعيم العربي جمال عبد الناصر قبول الهزيمة في 1967، ورفع شعار «ما أُخِذَ بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة». وقرر «اللاءات الثلاث»: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف. هرول السادات، وهو المنتصر جزئيًا في حرب أكتوبر 1973 إلى أمريكا، وسلّم مفاتيح الحل إليها، واستبعد الطرف المؤيد للقضية الفلسطينية (الاتحاد السوفيتي)، وذهب منفردًا إلى «كامب ديفيد»، متخليًا عن القضية الفلسطينية، وضدًا على الموقف العربي.
لم يكن أبو عمار بأحسن حالاً من السادات، وكان الرئيس محمود عباس أسوأ من الاثنين؛ فقد قبل بما هو أقل من القليل، وحول السلطة إلى قناة أمنية، ومسمار صغير في مكنة الآلة الأمنية الإسرائيلية.
في العام 2014، وتحديدًا في أيار مايو، وفي إبان الحرب على غزة وحصارها معًا، رَفعَ ما يزيد عن مئة وعشرة من مفكرين عرب، وقادة سياسيين، وأكاديميين مهتمين بالشأن العام رسالة إلى الرئيس محمود عباس يحذرونه فيها من الوقوع تحت وطأة الضغط الأمريكي - الإسرائيلي؛ مؤكدين التزامهم بالقضية الفلسطينية، ومحددين القضايا الأساس التي يجب عدم المساومة عليها في مفاوضات الحرب على غزة، وتمدد الاستيطان الذي وصل حينها إلى أربعمئة ألف مستوطن، وإلى الآن يجري بناء المستوطنات؛ تلك الثمرة الكريهة لاتفاقات أوسلو، التي كان أبو مازن طرفًا فيها.
المطلب الإسرائيلي - الأمريكي الأساس في التفاوض هو التوقيع على الحل النهائي بالشروط الإسرائيلية، وهو ما يدور حاليًا وإن كان باشتراطات أقسى من اشتراطات العام 2014 بعد أن امتد الاستيطان إلى "أ"، و"ب"، و"ج"، ووصل المستوطنون إلى قرابة المليون، وتم الاستيلاء على القدس الشرقية- عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة، ولم تعد حدود ما قبل 5 حزيران معترفًا بها بعد اعتراف إدارة ترامب بذلك.
اليمين التوراتي والعلماني الصهيونيان لا يقبلان بالانسحاب من الضفة الغربية؛ فهي «يهودا»، و«السامرة» بالنسبة لهم، ويريدون إحياء روابط القرى كحل تكتيكي؛ لأن الهدف الأساس لليمين واليسار الصهيونيين إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر، فماذا قال الموقعون على الوثيقة المهمة التي نشرتها «مجلة المستقبل العربي»، (العدد 413) أيار- مايو 2014، ص 22؟".
في ضوء الضغوط الأمريكية المكثفة، التي تمارسها الحكومتان: الأمريكية، والإسرائيلية على السلطة الوطنية الفلسطينية للتفاوض على اتفاقية نهائية يتم بموجبها الادعاء أنها تفي بجميع حقوق الشعب الفلسطيني ومطالبه السابقة والراهنة، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الانقطاع الحالي في المفاوضات ناجم عن التقليد الإسرائيلي بالتنكر الدائم لالتزاماتها.
ثم تحدد الرسالة: "نحن الموقعون أدناه مجموعة من الأكاديميين والمهنيين الفلسطينيين والعرب المعروفين بالتزامنا القوي ومنذ أمد طويل بالقضية الفلسطينية نبعث إليكم هذه الرسالة...".
وفيها يدعون إلى الوقوف بحزم في الدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وأنه لا أحد؛ فردًا أو جماعةً، يملك الحق أو السلطة غير المشروطة للتوصل لاتفاقية نهائية باسم الشعب الفلسطيني وحده.
وأن الشعب الفلسطيني وبكامله وفي كافة أماكن تواجده هو - وهو فقط- صاحب الحق الوحيد للقبول، أو رفض أي مشروع اتفاق نهائي، وأي مشروع من هذا النوع يجب أن يقدم للنظر والتداول أمام مجلس وطني فلسطيني يتم اختيار أعضائه من قبل الشعب الفلسطيني في انتخابات حرة عادلة وعلنية، وأن يتمكن هذا المجلس من عقد اجتماعاته بحرية، وبعيدًا عن التأثيرات الأجنبية والتدخلات الإسرائيلية.
ثم تحدد الرسالة الحقوق الوطنية الأساسية، وأهمها وأبرزها على الإطلاق: حق عودة الفلسطينيين إلى وطنهم المعترف به في الشرعية الدولية، وهذه الحقوق اللازمة والأصيلة للفلسطينيين كأفراد وعائلات وشعب هي بطبيعتها ليست ولا يمكن أن تكون موضوع مفاوضات، ولا يمكن المساومة عليها، أو التنازل عنها، أو تعريضها للخطر تحت أي ظرف من الظروف.
تتناول الرسالة القضايا التي يجب أن تقوم عليها المحادثات، سأشير إليها بإيجاز: حق تقرير المصير، والانسحاب لحدود ما قبل 5 حزيران، وإزالة المستعمرات الاستيطانية من الضفة والقدس، والاعتراف بالسيادة الكاملة على القدس الشرقية، والسيادة والسيطرة على الحدود والأجواء والمياه والمصادر الطبيعية الأخرى، وحرية الدخول في تحالفات، وعقد اتفاقيات مع دول أخرى.
ويلاحظ الموقعون أن ما يتم البحث فيه هو هيكل لكيان زائف لا يعبر عن أبسط الحقوق الوطنية، وأن المفاوضات تتجاهل كليًا استعادة حقوق الفلسطينيين، كما تتجاهل حقوق مواطني 1948 في المساواة، واستعادة الحقوق والممتلكات المسلوبة في النكبة.
وترى الرسالة أن مطلب الاعتراف بالدولة اليهودية يهدد في القبول كل الحقوق، ويثبت إنكارها في القانون الدولي، ويعني في حده الأدنى التخلي عن فلسطين 1948، ويجعل الفلسطينيين فريسة سهلة للتمييز، والتطهير العرقي المستمر منذ 1948، وأن استثناء فلسطينيي 1948 والشتات يعني أن إطار المفاوضات يستثني الغالبية من الشعب الفلسطيني.
وتدعو الرسالة إلى القطع النهائي مرة، وإلى الأبد، مع نهج مفاوضات بلا نهاية.
ويرى الموقعون أن أوسلو وفرت لإسرائيل الوقت والفرصة لضم واستيطان أراضٍ أكثر، وفرض المزيد من القيود على حياة الفلسطينيين.
يلاحظ الموقعون أن السلطة وعباس يواجهان خطر الوقوع في فخ يصعب الخروج منه، داعين إلى رفض المشروع، وإعلان بيان مبادئ واضح يلتزم بمعادلة سلام قائمة على حقوق وحاجات الشعب الفلسطيني المعترف بها دوليًا، ويدعون عباس إلى الدعوة لانعقاد مجلس وطني، وأن يتم تشكيله على أسس ديمقراطية.
تعود كتابة هذه الرسالة المهمة إلى العام 2014، وقد مضى عليها عشرة أعوام، وقد بلغت المخاطر حد شن حرب إبادة متواصلة لمئة وثلاثين يومًا - حرب على غزة، وهي أصغر منطقة يحتشد فيها مليونان ونصف، ويشترك في حرب الإبادة هذه أمريكا مدعومةً ببريطانيا وبعض دول أوروبا، ويبلغ فيها القتلى والجرحى أكثر من مئة ألف، والمشردون والجوعى غالبية السكان.
تحت جحيم حرب الإبادة تجري مفاوضات تقودها أمريكا بايدن - قائد حرب الإبادة الذي يقف ضد دعوات وقف الحرب، ويغدق السلاح والمال لاستمرارها، ويستخدم الفيتو أربع مرات ضد قرار وقف الحرب، ويستمر في التهديد باستخدام الفيتو، ويقوم وزير خارجيته برحلات مكوكية لفرض اتفاقية إذعان تكون الأسوأ مما حصل في مدريد وأوسلو.
جلي أن الأمريكان والإسرائيليين والبريطانيين يريدون وضع نهاية لمقاومة الشعب الفلسطيني الباسلة، التي قدمت أروع أنموذج لحركات التحرر الوطني في مقاومة جرائم حرب غير مسبوقة، وهي حرب ضد الإنسانية، وحرب إبادة، وهم يريدون طمس القضية الفلسطينية والتهجير القسري، وتهويد القدس.