مقالات
قطر وكأس العالم..
شهر كامل سيشهد العالم حدثا رياضيا يشد انتباه معظم سكان الكوكب. هي مجرد لعبة؛ لكنها تشتبك مع كافة ميادين الحياة. ومنها ميدان السياسة. حيث انعقاد الحدث في قطر كان وما يزال موضوع جدل سياسي طويل.. لماذا في قطر، ولماذا قطر بالتحديد..؟
مجرد وجود استفهام يبحث عن السبب الذي جعل قطر جديرة بتنظيم مونديال كأس العالم، يعني أن اللاواعي المتساءل يفترض ضمنيّاً أن قطر لم تكن تستحق تنظيم هذه البطولة. هذا النوع من الأسئلة يضمر نزوعاً للاستعلاء، سواء اعترف السائل بتلك النزعة أو رفضها.
غير أن النزعة الاستعلائية هذه تكون مفهومة حين يكون المتسائل من قومية أخرى، أوروبية أو غربية عموما؛ لكنه يغدو مثيراّ للأسى حين تنطق به أفواه عربية. لماذا قطر..؟ هو سؤال يصح تطبيقه على كافة الدول العربية فيما لو أتيح لها تنظيم مناسبة كهذه. لماذا العرب بشكل عام..؟ وكأنهم من مرتبة إنسانية أدنى وأقل من أن يستحقوا عقد نشاط كهذا.
بداية، أسهمت عقود من الهوان السياسي لدى شعوب المنطقة بتكريس نظرة دونية لذواتهم، عند أنفسهم وليس لدى الآخر فحسب. حيث سنوات طويلة من الحيرة والارتباك الداخلي جعلتهم يعتقدون باستحالة وجود أي إمكانية للحاق بالعالم، على كل المستويات. حتى لو كان الأمر مجرد تنظيم مناسبة ترفيهية، وكأنهم غير جديرين بمنافسة العالم ولو على مستوى اللعب.
طوال الفترة الأخيرة من تاريخنا الحديث، نشأ في المخيال العربي إحساس بوجود فجوة كبيرة بينهم وبين الآخر، وبدأ كما لو أن هذا الآخر ذو قدرات خارقة وليس إنساناً مثلنا. حيث تباين الواقع المادي الغربي والتطوّر العلمي كان أكثر سطوة وإبهارا علينا لدرجة أفقدتنا القدرة على الإيمان بذواتنا.
والحال هذا، لعلّ أهم درس تقدّمه قطر لشعوب المنطقة هو أنها تعيد إليهم إيمانهم بذواتهم وبقدرتهم على إثبات حضورهم مهما كانت ظروفهم الحضارية. هناك دائما إمكانية لمنافسة العالم المتقدّم وإسقاط فكرته عنك بكونك متخلفا وغير جدير بالحضور العالمي.
غير أن قدرة قطر على انتزاع فرصة لتنظيم كأس العالم فيها هو شهادة على ما يمكن للإدارة السياسية الجيّدة أن تنجزه لشعبها وتاريخها.
نحن في عالم معقّد.. نعم؛ لكنه يحترم من يقدّمون أنفسهم فيه بثقة كاملة، وبحقهم في المنافسة والحضور. هناك فجوات وإمكانات ثانوية في الهيكل العالمي؛ يمكن لكل سلطة سياسية ذكية أن تستثمرها؛ كي تنجز حضورها
العالمي. وهذا ما فعلته قطر حين تمكّنت من انتزاع فرصة لإقامة هذا النشاط العالمي في أرضها. وهذا هو السبب الذي دفع أصوات غربية عديدة إلى الصراخ والهمز واللّمز، وكأنّ قطر جردتهم من ادعاءات التفوّق، وقالت لهم: نحن مثلكم تماماً، لدينا قدرة أن نخوض اللعبة الوجودية بالأدوات نفسها التي تنتهجونها.
لكن السؤال المضاد والمهم: هل طريقة التقدّم تقتضي الاجتهاد من أجل نيل اعتراف العالم؟ هل محاولتنا إثارة إعجابه هي سلوك صحي أم تكرّس تفوّق الآخر، وتثبت تبعيّتنا له من حيث نريد إبراز ندّيتنا له..؟ الجواب: الأمر يتعلق بطريقتك في القيام بنشاطك، وهل تقوم به مع شعور كامل باستقلالك الذاتي، الثقافي والحضاري أو أنك تنفذ النشاط متبوعا بحزمة سلوكيات استجدائية؛ كي تنجح في حيازة إعجاب الآخر. وقطر جمعت بين الطريقتين، نجحت في تحقيق اختراق عالمي مهم، وحيازة فرصة سحبت بموجبها العالم إليها، ولو بمناسبة رياضية. وفي الوقت نفسه، تشبّثت برمزيتها الحضارية وثقافتها. أي أنها نجحت في تحقيق اشتباك مهم مع العالم، لكنها لم تذب فيه تماما.
الخلاصة: هناك درس سياسي مهم يتوجّب على شعوب المنطقة أن تتوقّف معه طويلاً. درس يتعلق بطريقة اشتغال قطر، وكيف أنها تمكّنت من عبور كل الحواجز، وتجاوز كل المعيقات؛ كي تنجح في استضافة كأس العالم. وقبل هذا وبعده، الأمر لا يتعلق بكأس العالم تحديدا، بل بالمنهجية السياسية الذكية التي تشتغل بها قطر على كل المستويات. طبيعة علاقتها مع العالم، وأدوات نفوذها الناجحة. هذه الفكرة هي المهمّة.
فمع نجاح قطر بتنظيم هذه المناسبة، ستحاول دول عديدة في المنطقة تقليدها والبدء بترتيبات لحيازة فرصة تنظيم كأس العالم مرّة قادمة؛ لكن هذا الاتباع الجزئي للنشاطات لا يعني أنهم قد نجحوا في اقتفاء دربها، فما لم يتوقفوا مع المنهجية السياسية كاملة، أي تتبّع طرق اشتغال، قطر بشكل عام، فالأمر غير مجدٍ، حيث محاولات تقليدها بشكل جزئي، لن تجعلهم يتفوّقون. سيظلون بارتباكاتهم نفسها، وستظل قطر تفاجئهم بشكل متواصل، وتحقق نجاحاتها هنا وهناك، وفي ذلك مجدها الكبير، ذكاؤها في العمل، وقدرتها المتواصلة على الصعود في مختلف المجالات.