مقالات
لماذا تضخِّم السعودية عدواً وهمياً اسمه "الإخوان"؟
ما من دولة إلا وتحتاج عدواً؛ كي تستمد منه عناصر وحدتها وتعزز من خلاله إحساسها بهويتها أو تُشرعن، بعداوته، بعض سياساتها، وإن لم يكن ثمة عدوّ حقيقي، تسعى لاختراعه، قد يكون هذا العدو دولة ثانية أو جماعة موازية أو فكرة ذهنية كبرى وحتى مجرد وهْم أو شبح، يندرج تحت ما يسمى "نظرية المؤامرة".
هناك تصريح شهير قاله: "الكسندر ارباتوف"، المستشار الدبلوماسي لآخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، قال: "إن تفكيك روسيا هو كارثة للغرب، إننا سوف نؤدي لكم ــ يقصد الغربيين ــ أسوأ الخدمات، ذلك أننا سوف نحرمكم من عدو". وبالفعل فقد الغربيون آنذاك العدو الذي أتاح للغرب على مدى عقود عديدة من الزمن أن يقف جبهة موحّدة متماسكة أمام تهديدات الشيوعية.
السعودية واحدة من هذه الدول، لكن المفارقة أنها ليست محرومة من العدو الحقيقي كي تذهب لاختراعه أو الاستبقاء على عداوة قسرية مع طرف لا يبدي أي عداوة تجاهها، ومع هذا تجدها تحاول، وبإصرار عجيب، اختراع عدوّ أو المبالغة في إشاعة خطره، فيما هي مُحاطة بأعداء حقيقيين وكُثر.
في كتاب "صناعة العدو"، لبيار كونيسا، يقول: "إن العدو لا يُحدَّد بناءً على وقائع عينيّة ترشحه ليكون عدواً، بل يُحدد بناءً على حاجة معيّنة هي التي تُلبسه ذلك اللقب كي تُبرر محاربته. فالدول هي من تعرّف عدوها وفقاً لمصالحها، حتى لو لم يكونوا هم كذلك".
من هذا المنطلق يبدو أن السعودية تتعمد الحفاظ على عداوتها مع الإخوان، لأهدافها هي، أهداف تتعلق بشرعنة تصفية كل الأصوات المتحفظة على سياسات بن سلمان والتحديث الانتقائي، الذي يجريه في السعودية؛ لتعزيز قبضته على السلطة.
تنتهج السعودية سياسة صنع العدو تجاه الإخوان، مع أنها ليست بحاجة لذلك، إنها تعيش حالة من الفوضى الاستراتيجية الكبرى، تيْه سياسي لم تعد قادرة على التحكّم به، وفي داخل هذه المتاهة، تحشد قوتها لمبارزة شبح اسمه "الإخوان"، وتترك غلمان فارس يترصدونها من كل مكان.
بالطبع، هذه ليست المرّة الأولى التي تُصنّف فيها السعودية جماعة الإخوان جماعة إرهابية، في المرّة الأولى كان التصنيف من قِبل السلطة السياسية ذاتها، وهذه المرّة عن طريق ذراعها الدينية، وفي الحالتين، لا يعدو الأمر سوى موقف سياسي أكثر منه حكماً قيمياً معتبراً، يمكن الأخذ به.
عداء السعودية للإخوان ليس حدثاً جديداً، الجديد هو إصرارها على الدّفع بالخصومة معهم إلى حدودها القصوى، هذا الموقف المتطرف يؤكد طبيعية العقلية السياسية لدى السلطات السعودية، فهي لا تترك أي مساحة للمناورة، بقدر ما تتخذ مواقفها بحدّية تنبّئ عن قطيعة منهجية شاملة.
في كثير من دول الغرب، لا تستطيع مؤسسات تلك الدول المجازفة بقرارات كبرى، لحظر هذه الجماعة أو تلك، حتى تحسب تبعات ذلك القرار ومن كل الاتجاهات، مع أنها تتعامل مع جماعات ليس لها ذلك الحضور والوزن الكبير في داخل تلك الدول. وإذا ما أخذنا الإخوان، لا توجد دولة غربية صنّفتهم كجماعة إرهابية، ولم يتمكّن حتى اليمين المتطرّف من تمرير قرار كهذا في برلمانات تلك الدول.
بينما دولة كالسعودية، تعتبر الدولة المركزية الأولى فيما يخص طابعها الإسلامي في المنطقة، تتخذ قراراتها بخفة تجاه جماعة إسلامية تعتبر جزءاً أساسياً من نسيج المجتمعات في المنطقة، ولا يمكن تجاوزها أو نزع شرعية وجودها دون أن يترك ذلك جرحاً كبيراً تجاه المملكة، ويضاعف الهُّوة بينها وبين قطاع عريض من المجتمعات العربية.
قبل سبع سنوات، كان يمكن تفهّم القلق السعودي من الإخوان المسلمين، ليس لكونهم يشكلون خطراً عملياً على نطام الحُكم الوراثي في المملكة؛ لكن لمجرد أنهم كانوا يعيشون لحظات الزهو الكبير بعد النجاح المبدئي لثورات "الربيع العربي"، وعلى اعتبار أنهم يمثلون كياناً إسلامياً حركياً ذي طبيعة موازية للنسخة التقليدية من الإسلام، الذي تتبناه السعودية، من هنا كان التوجسّ السعودي لديه ما يبرره بعض الشيء، ولو على صعيد ما يخلقه الأمر من تنافس حول الصورة المُثلى للحُكم ذي المرجعية الإسلامية.
لكن تلك المرحلة القصيرة وبكل ما أثارتها من توجسّات لدى السلطة السعودية، أعقبتها انكسارات واسعة لتيار "الربيع العربي"، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان، وكانت السعودية والإمارات ومصر على رأس الدول، التي تزعمت الحرب على الثورات، وما تزال تفاعلات الحرب مستمرة، وتتخذ مسارات أخرى حتى اللحظة.
غير أن السعودية ما تزال تعيش تحت تأثير الكابوس نفسه، وتخوض حرباً مع طواحين الهواء، حتى مع كون الإخوان لم يعودوا بالحضور السابق نفسه، وليست هناك دول تقع تحت سيطرتهم، ولا وجود لتنظيم موحّد ويشتغل بالفاعلية والأمان نفسيهما، الّذين كان يعيشهما قبل انطلاق شرارة "الربيع العربي".
وما دامت الحال هذه، تبدو السعودية تعيش نوعاً من "العمى السياسي" والعجز عن ترتيب أولويات مختلفة في كل مرحلة تعيشها، فهي تتحرّك مشحونة بخصومات متخيِّلة، وتنفخ في بُعبُع اسمه الإخوان، فيما الحقيقة أننا نعيش في مرحلة، أبعد خصم محتمل للسعودية فيها هو "الإخوان"، ولا يوجد ما يبرر تضخيم خطرهم في هذه المرحلة، لولا أن السعودية تعيش تخبطاً لا تدرك فيه عدوها الحقيقي من المتخيِّل.
الخلاصة: السعودية تهرب من عدوٍ حقيقي يتربص بها (إيران وحلفائها) نحو اختراع عدو وهمي ومتخيّل هو "الإخوان"، تحاول التغطية على فشلها في إضعاف خصومها الحقيقيين، بالذهاب نحو هدف سهل لا يشكل أي خطر عملي عليها.. لا في هذه المرحلة ولا في المدى المنظور.
إنه نوع من التعويض السيكلوجي لدى دولة فاشلة، كل حروبها تصبّ في صالح تعزيز قوة خصومها، وليس هذا فحسب، بل وتمعن في إضعاف تيارات كان يمكنها أن تستثمرهم بطريقة مختلفة، وتحوّلهم إلى حلفاء، يضاعفون من نفوذها وقوتها، لكنها تتحرّك وعلى عقلها غشاوة، وفي قلبها "بصيرة سياسية عمياء".