مقالات
هبوب رياح الربيع العربي
الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير. والتغيير المطلق لا يتخذ شكلاً معينًا أو صورًا وأساليب محددة.
اتسمت الثورات، في الماضي، بالعنف والغلبة، وكانت القوة الوسيلة المثلى والوحيدة للتغيير؛ فالعنف قاطرة التاريخ - كما يقول ماركس.
وحتى الشعراء، الذين مجدهم وسلاحهم الكلمة، مجدُّوا السيف؛ فهو الأصدق أنباءً -كما يقول أبو تمام. والكلمة ليست إلا خادمًا للسيف - كما يقول المتنبي. فالقوة هي الأداة المحركة للتاريخ، والضامنة للحقوق. (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). [الأنفال: 60].
اتسمت الثورات، في الماضي، بالعنف والاحتراب، وكان التغيير سِلميًّا شبه مستحيل. الثورات الكبرى: الفرنسية، والروسية، والتركية، والإيرانية، والمصرية كانت بداياتها الاحتجاج السلمي، ولكن العنف هو الذي انتصر.
وإذا استثنينا الهند، فإن ثورات العصور الحديثة قد اتسمت بالعنف، وكان الحكام الطغاة هم من يفرض استخدام القوة والاحتكام إليها.
في خاتمة القرن العشرين، وتحديدًا منذ الثورات الإيرانية، وَمِنْ قبلها الهند، وفيما بعد الثورات الملونة في آسيا الوسطى، بدأ تحول مهم في انتصار التغيير عبر الاحتجاج السلمي والمدني.
ثورة الربيع كانت التحول الأهم؛ لأن رياحها هبت على منطقة وأنظمة حكم شمولية لا تؤمن إلا بالسلاح، ولا تنزل إلا على حكمه. الثورات الكبرى، وثورات العالم الثالث، وحركات التحرر الوطني اعتبرت النضال المطلبي، والاحتجاجات السلمية، ودعوات الإصلاح والتجديد والتحديث- رجعية، رغم أنها آتية منها ومنتصرة بها، وتعاملت معها باستهانة حد الإدانة والإلغاء، خصوصًا في المنطقة العربية. في الحياة لا شيء من لا شيء.
فالماركسية آتية من روافد الاقتصادي السياسي البريطاني، والاشتراكية الخيالية والفلسفة الألمانية. يقول المفكر العربي عبد الله العروي في كتابه «الإصلاح والسنة»: "ليس صحيحًا ما قرره أوغست كونت من أن الميتافيزيقيا فنَّدتْ الميثولوجيا، وعبدَّت الطريق أمام العلم التجريبي والفكر الوضعاني. تاريخيًا نشأت الميتافيزيقيا في حض الميثولوجيا، فلم تتنكر لها، ولم تنفصل عنها".
"كما أن الثيولوجيات تولدت عن الميتافيزقيا فلم تنفصل عنها ولا عن الميثولوجيا. كما أن العلم الموضوعي انبثق عن السوابق الثلاث المذكورة، ولم يقطع أبدًا الصلة بها؛ رغم طرقه مسالك جديدة، وحصوله على مكاسب متزايدة باهرة".
"لا يصح النسق الكونتي إلا على المستوى العقائدي؛ أي السياسي في النهاية، ولا يستبعد أن يكون هذا كل ما سعى إليه صاحبه". (الإصلاح والسنة: ص 18).
ومن يقرأ الكتب السماوية والديانات التوحيدية يلاحظ الصلات العميقة والمعاني العظيمة المشتركة بينها. (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان، وآتينا داود زبورا. ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلاً لم نقصصهم، وكلم الله موسى تكليما). [النساء: 163- 164].
فلا شيء من لا شيء، ولا شيء في التاريخ يموت، ولا شيء يبقى كما هو. وإذا كانت الفلسفة، وهي نقلة نوعية وبديل للأسطورة، فإن الأسطورة والخرافة ظلتا قائمتين، وتتمازجان حتى اليوم بصور كثيرة، وتتجددان باستمرار في الإبداع الأدبي بألوانه المختلفة.
من جديد تعود الاحتجاجات وتتجدد لتكون الشكل السائد والمهيمن كجذر أساس للثورات الكونية، التي كانت السمة الأبرز لثورات القرن العشرين- قرن التحرر من الاستعمار. إحراق البوعزيزي نفسه في أحد شوارع مدينة تونس، يوم 17 ديسمبر 2010، لم يكن إلا القشة التي قصمت ظهر البعير، أو الشرارة التي أحرقت السهل كله - كما يقول ماو.
جسد البوعزيزي المحترق كان التعبير المكثف عن الجسد العربي الملطوم والمهان، وكان الاشتعال حريقًا للكف الحاكمة الفاسدة والمستبدة في المنطقة العربية كلها.
في الذكرى الثالثة عشرة لعيد الـ11 من فبراير 2011- يوم انبجاس الفجر الربيعي في صنعاء- نقف قليلاً لنستذكر مآلاتها. للربيع العربي في اليمن روافد عديدة بدأت بـ«هبة حضرموت» عام 2005 كرد على محاولة الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح محاولة شق محافظة حضرموت، والاحتجاجات السلمية في عدن الجنوبية، وبالأخص ضد حرب 1994، وما ترتب عليها ونجم عنها من إقصاء الجنوبيين، وإلغاء الجيش الجنوبي، وعدم صرف مرتبات الجنود الجنوبيين، وموظفي دولة الجنوب، وانتقلت الاحتجاجات إلى تعز المدينة التي كان أول من رفع شعار: «يرحل».
كانت صنعاء أول من بدأ الاحتجاجات بتجمع أسبوعي أمام مجلس الوزراء؛ دفاعًا عن الحريات والحقوق. لم يكن الربيع معزولاً عن تجارب الاحتجاجات الإنسانية منذ فجر التاريخ، وللاحتجاجات قبيل الثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر حضور، لكن -للأسف الشديد- لم يحافظ عليه، وبالأخص في مدينة المدن اليمنية (عدن).
وكانت الاحتجاجات في عدن، وصنعاء، وتعز المدماك الأساس للثورة اليمنية. الاحتجاجات السلمية في المدن العربية، وبالأخص الانتفاضتان الفلسطينيتان الأولى: 1987، والثانية 2000 كانتا حاضرتين وبقوة في الربيع.
قمع الاستعمار والاستبداد العربي هو الذي دفع ويدفع للعودة إلى المواجهة العسكرية؛ كما هو الحال في فلسطين، وحرب الإبادة في غزة، وحروب الجيش والجنجويد في السودان كانقلاب ضد انتفاضة 25 ديسمبر. كثيرًا ما عاب المفكر العربي عبد الله العروي على الأحزاب القومية واليسارية القفز على الإصلاحات، وعدم التقدير لدورها في التمهيد للثورة.
الاحتفاء بالربيع العربي يقتضي إعادة قراءة الربيع دراسة واعية ومعمقة، ودراسة الخلفية التاريخية لهذا الحدث العظيم، وأثره العميق، والعوامل المختلفة لهبوب رياحه في مطلع القرن، وانتشاره الواسع من الماء إلى الماء، وعوامل الانفجار والانتشار، وأسباب الانكسار، وتسيد قوى الثورة المضادة، وعودة الفساد والطغيان بأبشع صوره وأشكاله.
كثيرة هي الأبحاث والكتب الصادرة عن هذا الربيع عربية وأجنبية. فالمفكران العربيان: عزمي بشارة، وعبد الإله بلقزيز من أوائل وأهم الدارسين للثورة.
المفكر عزمي درس الثورة التونسية في كتابين أهمهما: «الثورة التونسية المجيدة»، كما احتفى بثورات الربيع العربي عبر الندوات والأبحاث، وأقام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لقاءً حواريًا عن الربيع العربي في اليمن دعا إليه العديد من الباحثين والكُتاب وصدر عن اللقاء كتاب «الثورة اليمنية: الخلفية والآفاق».
أما الباحث والمفكر عبد الإله بلقزيز، فأصدر كتاب «ثورات وخيبات في التغيير الذي لم يكتمل»، وهناك إصدارات ودراسات عديدة يقتضي الاحتفاء بها بالقراءة. إن الأهم هو دراسة أسباب الانكسار، وعودة الماضي والأسوأ منه.
فالتحية للحدث العظيم لن يكون بذكر الماضي فقط، والتغني بالانتصار، أو البكاء على الأطلال؛ وإنما بدراسة ما جرى ويجري في المنطقة العربية كلها، وبالأخص في فلسطين والسودان موئلي الانتفاضات الشعبية منذ ثلاثينات ومنتصف القرن الماضي.
الباحث والمترجم هاشم صالح درس الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، وتضمن نفس التسمية، وهو إصدار على جانب من الأهمية؛ لأنه درس الانتفاضة دراسة عميقة، ووقف طويلاً إزاء عوامل وأسباب الانهيار والارتداد. وكتاب مصطفى محسن «بيان في الثورة: هوامش سوسيولوجية على متن الربيع العربي»، وكتاب وائل غنيم «الثورة».
ومن الإصدارت المهمة عن الربيع في ساحة التغيير بصنعاء ما قامت به النوبلية توكل كرمان برصد وتدوين وقائع ساحات الحرية والتغيير في صنعاء، وتعز، وعدن، وحضرموت، ولديها ملفات عديدة ينبغي أن ترى النور. رواية بشرى المقطري «ماذا تركت وراءك؟»، التي تُرجمت إلى أكثر من لغة تكشف بشاعة الانتهاكات، التي أعقبت الربيع.