مقالات

٢٦ سبتمبر.. الحرية ببساطة

23/09/2025, 10:39:39

غادرت اليمن منذ أن كنتُ طفلة لا أتجاوز الثلاث سنوات، فقد كان أبي يعمل في أحد البلدان المجاورة. وعيت على عادات والدتي الصباحية، تشرب (قلص البن)، وبعد ملالاة مليئة بالشجن ما زلت أذكر بعض كلماتها:

"ألا يا والدة بيني وبينك بحور... ألا بيني وبينك بحور وبندرين وتاجر".

ورغم صغري، فقد وصلني الإحساس بمرارة المسافة والشوق المكبوت في صدر أمي، بدموع تجتهد في حبسها عني كي لا أسألها: لماذا تبكين؟
ثم ما تلبث أن تدير المذياع باحثة في الأثير عن إذاعة صنعاء ليشدو المغني:
"دمت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال.. ثورة تمضي بإيمان على درب المعالي.. تسحق الباغي تدك الظلم.. تأتي بالمحال".

لم أكن وقتها أفهم أيًا من تلك المفردات، لا الثورة، ولا الظلم، ولا المحال. ولما كبرتُ قليلًا سألتها: ما هي ثورة سبتمبر؟
ذلك أن أمي كانت مصدري الوحيد للمعرفة، ورغم أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة، فقد أجابتني على السؤال بطريقة بسيطة، مختصرة، ودونما إطالة:
إن إمامًا ظالمًا كان يحكم اليمن ويمنع الناس من الذهاب للمدرسة – فقد كانت تعلم كم كنت أتشوق لأول يوم دراسي – وأن هذا الإمام الظالم كان يغطي اليمنيين بالقطران الأسود ويجعلهم يقفون أمام المرايا ليظنوا أنهم يرون جِنًّا ووحوشًا، وأنه الوحيد الذي يحميهم من هذه الوحوش، بينما كان هو الوحش.

اكتفيتُ بهذه الإجابة التي ستبقى محفورة في ذهني ما حييت، وصارت كل ما أعرفه عن تلك الثورة العظيمة فترةً من الزمن.

مرت الأيام وبدأت أدرك أني لا أنتمي للمحيط الذي أعيش فيه، وأن هناك مكانًا آخر على هذه الأرض يخصني، لن يُطلق عليّ فيه "غريبة" أو "أجنبية". مكان أتحدث فيه اللهجة التعزية دون أن يتهكم عليّ أحد، أنطق حرف القاف بكل عنفوان كما ينبغي أن يكون، وتخرج الجيم التعزية من فمي بأريحية دون أن أتحرج من ضحك زميلاتي عليها في الفصل، أن أدعو صديقاتي في الحارة على وجبة العصيد مع (الوزف) وهن يحتفين بالأكل من قدر واحد دون أن ترتسم الغرابة على وجوههن.

لم تكن حياتي خارج اليمن سيئة، لكنها لم تكن مكتملة، ذلك أن كل ما حولي من أماكن وعلاقات مجرد ذاكرة مؤقتة، أشبه بشجيرة وحيدة وإن كبرت فإنها لن تضرب جذورها في الأرض، وهو ما حدث بالفعل لاحقًا، حيث جاءت أزمة الخليج في عام 1990 لأرجع من حيث كان يجب أن أبدأ.

وصلت إلى اليمن، أرشفت كل ما مضى، وشرعت في إعادة تعريف نفسي لنفسي. عدت بذاكرة جديدة، لكنها هذه المرة لن تكون مؤقتة، بل ممتدة وراسخة رسوخ جبل صبر، الذي كنتُ كلما ذهبت إلى قمته أتنفس الصعداء، وأنظر إلى تعز من الأعالي، فأشعر أن كل بيت فيها يخصني، وكل من فيها هم بعضي وأهلي وكل أقاربي.

التحقت بكلية التربية قبل أن تتحول إلى جامعة، وكنت كلما دخلت من بوابة مبناها الرئيس أرمق تلك اللوحة الذهبية الصغيرة وقد كُتب عليها: "هدية من الشعب الكويتي للشعب اليمني الشقيق"، بينما كان بيتنا في منطقة قريبة من المستشفى العسكري، الذي بُني هو أيضًا على نفقة الكويت. أما الطريق الذي كان يربط المدينة بجبل صبر، فقد تم تعبيده بمنحة من الشيخ زايد، بالإضافة إلى ما كان يتبادر إلى سمعي عن الكثير من المؤسسات والمدارس والمستشفيات والطرقات التي كان يمنحها لنا الآخرون على هيئة هبة أو هدية أو تبرع، رغم أن اليمن قد حباه الله مثل غيره من البلدان بالثروات والموارد.

وهنا تذكرت قصة أمي عن الإمام الظالم، وأفقت على حقيقة أننا لا زلنا ندفع ثمن حكم تلك السلالة التي غيّبت وطنًا بأكمله عن اللحاق بالركب، وأن التعافي من آثار تلك النكبة لا زال يحتاج زمنًا طويلًا.

لم يكن من الصعب عليّ أن أُقدّر قيمة أولئك الشهداء الذين وهبوا دماءهم في سبيل التحرر من الكهنوت، فقد نشأت بيني وبين ثورة السادس والعشرين من سبتمبر قصة حب دونما تفاصيل، ودون مؤثرات وتجييش عاطفي من مدرسة أو تلفاز أو كتاب، بدأت بقصة أمي وأغنية أيوب، والحاضر الذي يتخلف عن البقية، ولمسته بذاتٍ أنفت أن تأخذ بلادها الفتات من الآخرين.

لم توفّر لي الأقدار أن أدرس في مدرسة أبدأ فيها يومي بـ"رددي أيتها الدنيا نشيدي"، و"تحيا الجمهورية اليمنية"، ولكنها وفّرت لي قلبًا عاشقًا لثورة لا تشبه كل الثورات، لأنها لم تكن ثورة على الذين يأكلون البسكويت، ولا على البشوات والملوك الأنانيين، بل كانت على الذين شربوا من دماء اليمنيين، وسرقوا إرثهم، وصادروا مستقبلهم.

إن اعتناق الثورات لا يقتضي أن تكون مثقفًا، أو شاعرًا، أو فيلسوفًا، يكفي أن تكون شخصًا لا يساوم على الكرامة، ولا يرتدي لباسًا غير الحرية.
كذلك كانت أمي، وكذلك كنتُ أنا، منذ أول يوم سمعت فيه عبارة: "هنا إذاعة الجمهورية اليمنية من صنعاء"، ومنذ أول ترنيمة سبتمبرية طرقت قلب تلك الطفلة.

مقالات

هل يحق للإنسان إنهاء حياته في حال إفلاسه؟!

في برنامج يناقش قضايا الإنسان الاجتماعية والفكرية، تناول المقدّم في إحدى الحلقات موضوع إشكالية الديون، وذكر فيها أحد استطلاعات الرأي التي أُجريت في دولة غربية، وكان السؤال المركزي في الاستطلاع هو: هل يحق للإنسان إنهاء حياته في حال إفلاسه؟! وقد كان عدد المؤيدين لهذا "الحق" يتزايد من فترة زمنية لأخرى.

مقالات

سياحة مع أبطال ثورة 26 سبتمبر (1)

عندما نعود إلى الحياة التي عاشها العديد من ثوار السادس والعشرين من سبتمبر، نكتشف أن الثورة لم تُقَم بشخصيات كرتونية أو هزلية، بل بشخصيات رضعت الثورة من أشعة الشموس، ولم ترتهن هذه الشخصيات العظيمة إلى الكراسي الوثيرة والمناصب الإيرادية، بل نزلت إلى الميدان مثلها مثل أي جندي.

مقالات

عصابات تعز المنفلتة

هل تشكّل حادثة اغتيال افتهان فرصة ثمينة للسلطة المحلية والأجهزة الأمنية — يُحسنون استغلالها — لإعادة العلاقة مع السكان وتحسين صورتهم لدى شرائح المجتمع؟ لا أعتقد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.