تقارير
المغتربون العائدون من السعودية.. عقود من المعاناة
لم يكن الشاب عبد المغني الحميري (39 عاماً) المغترب اليمني الوحيد، الذي عاد في يناير الماضي بشكل نهائي من السعودية إلى داخل البلاد.
غربة استمرت سنوات، تجرّع فيها الحِميري وغيره من العائدين مرارة البُعد وعناء العمل، وتهرّب أربابه من دفع الأجور، كما تحمّل إهانات وتعسّف الكفيل السعودي، وغيرها من المضايقات والقيود والممارسات التعسفية والترحيل القسري من قِبل السلطات السعودية.
تزايد -خلال الربع الأول من هذا العام- عدد المغتربين اليمنيين العائدين من السعودية، إذْ سجلت منظمة الهجرة الدولية 18 ألفا و52 شخصاً، بينهم 4 آلاف و685 مغترباً عادوا في فبراير الماضي و7 آلاف و607 مغتربين عادوا في مارس الماضي.
يذكر الحِميري لموقع "بلقيس": "ضقت ذرعاً بالغربة وممارسات الكفيل والحكومة السعودية، وتعرّضت للنَّصب مراراً من قِبل المقاولين وجهات العمل، التي تؤخّر رواتبي لأشهر، ثم تتهرّب أو ترفض دفعها".
ويضيف: "نعاني ونشقى ونكدح ونتعب في السعودية والعائد المادي، الذي كنا نكسبه، أحياناً نحول جزءا منه لأسرنا في داخل البلاد، وما تبقى لا يكفي لسداد حق الكفيل، والرسوم المقرر دفعها لصالح الحكومة السعودية".
- بين شقاءين
معلّم الديكور الحِميري، الذي ينحدر من إحدى الأسر الفقيرة في تعز، كان يمتلك إقامة مدوّنّ عليها "مهنة سائق خاص"، وهي واحدة من المهن التي تدرج السلطات السعودية حاملها ضمن العمالة السائبة، وتلزمه بالعمل لدى كفيله، وتحظر عليه مزاولة أي نشاط آخر.
وتنفّذ السلطات السعودية، بين حين وآخر، حملات ضد العمالة المخالفة، وتحتجزهم لأيام، وتقوم بتغريمهم، ومن ثم ترحيلهم إلى بلدانهم، الأمر الذي كان يجبر الحِميري على البقاء في مسكنه لأسابيع، والتوقّف عن العمل، خشية وقوعه في مصيدة تلك الحملات.
يجد اليوم صعوبة في إيجاد عمل في المجال الذي يبرع فيه، ما يجعله يتنقّل بين تعز وصنعاء وغيرهما، ويتقاضى منه أجراً لا بأس به، لكنه غير كافٍ للانفاق على عائلته الصغيرة ووالدته وعدد من أشقائه وشقيقاته اليتامى.
الشقاء بالنسبة له لا وطن له، كما أن تداعيات العودة تتجاوزه إلى أسرته، التي بدأت تلمس تراجعاً في أوضاعها المادية والمعيشية، وتواجه صعوبة في توفير بعض متطلباتها، وتأمين نفقات التعليم والصحة لبعض أفرادها.
إلى ذلك، رحّلت السلطات السعودية، منذ العام الماضي، مئات المغتربين اليمنيين بحُجة مخالفتهم قوانين العمل، كما إتخذت بعض المؤسسات والكفلاء السعوديين قرار الخروج النهائي بحق عشرات المكفولين لديها، بفعل حظر القانون السعودي عليها مواصلة كفالتهم.
- دروب شائكة
محمد سعيد (42 عاماً) عاد، في فبراير الماضي، من السعودية بعد أن ملَّ البقاء والعمل فيها، لأسباب تبدو شبيهة بتلك التي دفعت الحِميري، إلى جانب تلقيه، مع 49 يمنياً يعملون في مكة، إشعارا من كفيلهم السعودي، يخيّرهم بين البحث عن كفيل آخر خلال شهر أو الخروج النهائي.
لم يستطع سعيد، بعد غربة استمرت عشر سنوات زاول فيها العديد من الأشغال الشاقة، إيجاد كفيل آخر، وتغيير مهنته من عامل منزلي إلى أخرى، فاختار مغادرة السعودية، لتزايد المضايقات والقيود والمعانات والصعوبات، وتحوّل الغربة إلى جحيم، كما يذكر لموقع "بلقيس".
لم يعد يجد اليوم فارقاً بين حجم البؤس والشقاء في السعودية وداخل بلاده، التي عاد إليها، واشترى سيارة صالون، لينقل بها الركاب، ويستفيد من عائداتها المتواضعة في الإنفاق على زوجته وأطفاله، إضافة إلى والدته ووالده المسنَين.
ويختلف الأمر قليلاً بالنسبة لعيسى محمد (39 عاماً) وصادق علي (47 عاماً)، اللذين جاءت عودتهما بعد 7 سنوات من الاغتراب بطريقة قانونية، مضافاً إليها ثلاث سنوات من التخفي والتواري عن أنظار أجهزة الأمن السعودية، وذلك لإنتهاء مدة إقامتيهما، وعجزهما عن دفع التكاليف الباهظة لتجديدهما.
دفعهما ذلك، قبيل عدة أشهر، للعودة إلى البلاد عن طريق التهريب، وتكبّدا عناء رحلة العودة الخطرة لعدة أيام، وفضّلا ذلك على البقاء رهن الخوف والترقّب وخشية الوقوع بيد السلطات السعودية، التي ستلزمهما -في حال ضبطهما- بدفع كافة الرسوم والغرامات المستحقة عليهما، وهو ما يعجزان عنه، حد تعبيرهما.
وتفرض السلطات السعودية زيادة كبيرة في الرسوم والضرائب على المقيمين في أراضيها، كما تقيّد تحرّكاتهم، وتحظر عليهم ممارسة العديد من المهن بحُجة توطينها، الأمر الذي جرّد عشرات المغتربين اليمنيين من أعمالهم ومشاريعهم، وفاقم معاناتهم، وأرغمهم على العودة إلى بلادهم.
- تداعيات
ويتوقّع متابعون وناشطون عودة المزيد من المغتربين اليمنيين في السعودية إلى بلادهم، وذلك بالتزامن مع الحديث عن توجّهات سعودية لتخفيض نسبة العمالة اليمنية إلى الرُّبع، وقيامها بتسريح جماعي للعشرات منها.
منظمة "هيومن رايتس ووتش" لفتت -في وقت سابق- إلى أن المغتربين اليمنيين في السعودية معرضون لخطر الإعادة القسرية والجماعية إلى بلادهم المنهكة والمكتظة بالعاطلين بفعل الحرب المزمنة، التي خلقت "أسوأ وأخطر أزمة إنسانية على مستوى العالم".
وينتظر العائدون وضعاً قاتماً مع أسرهم، وفقاً لخبراء حذّروا -في الوقت ذاته- من مغبة العودة التي ستعمّق من حجم المأساة الإنسانية في البلاد، وستكون لها تداعيات كارثية على مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية.
وستؤدي إلى انخفاض تحويلات المغتربين، وستقلل من حجم العملات الأجنبية المتدفقة إلى داخل البلاد، كما ستدفع بالاقتصاد الوطني والعملة المحلية نحو المزيد من الانهيار.