تقارير
رمضان يضيء عتمة الفقراء من خلال توفير فرص عمل تخفف من وطأة الحرب على اليمنيين
على أعتاب سوق مدينة مارب، حيث تزخر بروائح الخضارِ الطازجة، اتخذت “أم أحمد” مكانها منذ أول أيام شهر رمضان، ورتّبت عددًا كبيرًا من رقائق اللحوح، وإلى جوارها وردٌ ورياحينُ متنوعة (مشاقر)، جميعها من خراج يدها، إذ ترتب وتعرض بضاعتها بينما تنتظر بفارغ الصبر زبائنها المحتملين كل يوم.
تركت قريتها ونزحت بسبب الحرب، تاركةً خلفها منزلها وأرضها وذكرياتها، فيما تعيل “أم أحمد” اليوم أسرة مكونة من خمسة أطفال، بعد أن فقدت زوجها خلال الحرب بمحافظة مارب. وهي اليوم تصارع الحياة بصبر وجَلَد، مستخدمةً كل ما أوتيت من قوة لتوفير احتياجات أسرتها وكفّهم عن سؤال الناس.
رمضان فرصة للمعدمين
مع حلول شهرِ رمضان، الذي يشكل فرصة مميزة للكثير من اليمنيين لتحسين أوضاعهم المعيشية من خلال خلق فرص عمل موسمية تساعدهم على تلبية احتياجاتهم خلال هذا الشهر، بالإضافة إلى توفير احتياجات أطفالهم لاستقبال عيد الفطر، الذي يشكل عبئًا إضافيًا على الأسر اليمنية المثقلة بالكثير من الصعاب والهموم.
تمامًا كما ترى “أم أحمد” في رمضان فرصةً لتحسين أوضاعها المعيشية، حيث تحضر “المشاقر” بألوانها المختلفة، وتصنع بيديها الماهرة خبز “اللحوح”، الذي يفضله اليمنيون ويطلبونه بكثرة خلال شهر رمضان، إذ يميز هذا الخبز سفرة الأسرة عن غيرها من سفر باقي العام بمائدة (الشفوت).
مشاقر وسنبوسة
تبدأ مهمة “أم أحمد” مع شمس الصباح في إعداد اللحوح بالذرة والذرة الصفراء وطهوها، ثم تعود إلى قطف المشاقر وتشكيلها ودمج بعضها ببعض. وفي السوق، تحاول جذب انتباه المارة ببضاعتها من خلال الابتسامة وكلمات الترحيب لكل من يقترب من بساطها، مقدمةً له بضاعتها ببساطة ريفية، فقد عاشت جلّ حياتها في ريف محافظة حجة، شمال غرب اليمن.
تواجه “أم أحمد” صعوبات متعددة في عملها، فالمنافسة شديدة، حيث يجلس بجوارها الكثير من الأطفال والنساء الذين يبيعون المنتج ذاته، فيما الأسعار مرتفعة، والقوة الشرائية ضعيفة، كما تقول. لكن إصرارها وعزيمتها يساعدانها على تخطي بعض العقبات.
ومع اقتراب موعد الإفطار، تعود “أم أحمد” إلى منزلها بما جنته من مال، مهما كان قليلاً، فكل قرش تجنيه يمثل لها انتصارًا في معركتها ضد الفقر والحاجة. أما بعد رمضان، فيأتي عيد الفطر، الذي يشكل عبئًا إضافيًا على الأسرة اليمنية، في سعيها للحاق بعادات وتقاليد اعتاد عليها الناس، من شراء الملابس الجديدة والخروج مع الأطفال.
معلمة وأطفالها في سوق احتياجات رمضان
“أم أحمد” ليست الوحيدة التي خرجت إلى السوق استغلالًا لموسم رمضان، حيث إن سلمى ناصر، المعلمة في مكتب وزارة التربية بمحافظة إب والنازحة بمحافظة مارب، هي الأخرى خرجت إلى السوق لبيع السنبوسة وفطائر الإفطار التي تصنعها في منزلها، فيما دفعت بأطفالها إلى السوق أيضًا لبيع المنتجات ذاتها في شارع مقابل، حسب وصفها.
تقول سلمى: “الحرب جعلت منا أرقامًا بلا قيمة، لا عمل ولا راتب ولا حياة كريمة. نحاول بكل جهد توفير لقمة العيش لأطفالنا، وإيجار السكن، وتكاليف احتياجاتنا التي باتت ثقيلة علينا ولم نستطع اللحاق بها أو كفايتها”.
وتشير ناصر، التي تقف خلف طبق مصنوع من سعف النخيل، إلى أن رمضان يعد فرصة لها لتحسين أوضاعها المعيشية، مضيفةً أن الشهر الفضيل تزيد فيه الحاجة لبعض المنتجات الرمضانية التي تستطيع إنتاجها في منزلها وإخراجها إلى السوق لبيعها، مثل اللحوح وعصير الليمون والفطائر والسنبوسة.
18 مليون يمني بحاجة إلى مساعدة
وبحسب آخر المستجدات الإنسانية في اليمن، فإن الأمم المتحدة تتوقع أنه في عام 2024، سيحتاج أكثر من 18.2 مليون شخص، بما في ذلك 14 مليون امرأة وطفل، إلى مساعدات إنسانية. فيما يواجه 17.6 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي، ويعاني ما يقرب من نصف الأطفال دون سن الخامسة من التقزم المعتدل إلى الشديد، بينما لا يزال هناك 4.5 مليون شخص نازحين، وقد تعرض الكثير منهم لعمليات نزوح متعددة على مدى عدة سنوات.
ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة سبأ، صالح الأقرع، إن الحرب المستمرة في البلاد منذ عشر سنوات تعد السبب الرئيسي للأوضاع التي وصلت إليها الأسر النازحة، حيث أدت إلى تدميرِ البنية التحتية، وتوقف النشاط الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض القيمة الشرائية للريال اليمني، وغلاء المعيشة الذي طغى على قدرات الأسر في توفير أساسيات العيش.
وأضاف أن تلك التبعات التي خلفتها الحرب دفعت العديد من الأسر إلى استغلال شهر رمضان وفرصة إجازة الأطفال لزجّهم في العمل في الأسواق، والعمل على كسب ما يمكن من خلال أي مهن بسيطة، رغم التحديات الكثيرة التي تواجههم.
وأوضح الأقرع أن الأسواق الشعبية في رمضان، وفي مختلف المحافظات اليمنية وليس في مارب فقط، باتت تمثّل متنفسًا للأسرِ الفقيرة والمعدمة، حيث تتيح لهم فرصة بيع منتجاتهم اليدوية والمنتجات الغذائية التي يصنعونها في بيوتهم بأسعار بسيطة، مما يساعدهم على سد ولو جزء بسيط من احتياجاتهم من خلال المهن الموسمية.
فيما يستغل الشباب والأطفال والنساء شهر رمضان للعمل في بيع تلك السلع، مما يساعدهم على توفيرِ بعض المال لسد احتياجاتهم الأساسية والاستعداد لاستقبال عيد الفطر وتوفير متطلباته، حسب وصفه.
ارتفاع عدد الجوعى إلى 17 مليون يمني
وبحسب تقرير نشره البنك الدولي، فإن الحرب الدائرة في اليمن، التي دخلت عامها العاشر، وتبعاتها الإنسانية والاقتصادية، أدت إلى ازدياد عدد الذين يعانون من الجوع في البلاد بمقدار 6.4 مليون شخص خلال سنوات الحرب الماضية.
وأوضح البنك أن عدد الجوعى ارتفع من 10.6 مليون في عام 2014 إلى 17 مليون شخص في 2023، مشيرًا إلى أن انعدام الأمن الغذائي في اليمن حاليًا يمثل التحدي الأكثر إلحاحًا في ظل استمرار الحرب، وتصاعد معدلات التضخم، وتغيرات المناخ.
وبحسب تقييم البنك الدولي، فإن اليمن يُعد أحد أفقر البلدان وأقلها نموًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدى سنوات، فيما يواجه الآن أسوأ أزمة إنسانية عرفها العالم، وقد دمر القتال اقتصاده، مما أدى إلى انعدام الأمن الغذائي، الذي أوشك أن يصل إلى حد المجاعة، فضلًا عن تدمير البنية التحتية الحيوية.