تقارير

لماذا تُضخم واشنطن من قدرات الحوثيين؟

12/06/2025, 12:59:02
المصدر : عبد السلام قائد - قناة بلقيس - خاص

يواصل مسؤولون أمريكيون التهويل غير المسبوق لمليشيا الحوثيين وتسويقها بشكل مثير للسخرية، لم يقتصر على وصف المواجهات معها في البحر الأحمر بأنها "أعقد وأشد اشتباك بحري منذ الحرب العالمية الثانية"، بل وصل الأمر إلى الزعم بأن تلك التجربة "تُدرَس بعناية" ضمن تحضيرات الجيش الأمريكي لاحتمالات المواجهة مع الصين، في ربط غير منطقي بين مليشيا جبلية فوضوية والصين بوصفها القوة النووية والعسكرية والاقتصادية الصاعدة التي تشكل التحدي الأكبر للهيمنة الأمريكية في العالم.

وبصرف النظر عن أهداف واشنطن من التهويل من قدرات الحوثيين، لكنها تمنحهم اعترافا مجانيا كمكون إقليمي بشكل يفوق قدراتهم الفعلية، وتمنحهم شرعية دولية، وتضفي على نشاطهم صفة البطولة والتحدي، وهو ما لم تنجح في تحقيقه سنوات من الإعلام والدعاية الحربية التي يروج لها الحوثيون عن أنفسهم والمحور الإيراني بشكل عام. 

وبهذا فإن البنتاجون لا يضخم الحوثيين بقدر ما يصغّر نفسه حين يقارن إمبراطوريته العسكرية بمليشيا جبلية محاصرة ومحدودة الموارد، وتعتمد على الدعم الإغاثي لتأمين الخبز والوقود، أو يرى المواجهة معها "بروفة" أو "نموذج تدريبي" لحرب بحرية كبرى مع قوة نووية عظمى كالصين، في مشهد يشبه تصوير مقاتل حوثي ببندقية قديمة وملابس رثة على أنه نسخة أولية من جنرال في جيش التحرير الشعبي الصيني.

- عبث السرديات الأمريكية

مؤخرا، كشف كاميرون إنغرام، قائد المدمرة الأمريكية "يو إس إس توماس"، عن توجه بلاده للاستفادة من تجربة الحرب ضد الحوثيين في التخطيط لأي حروب مستقبلية، واضعة في الاعتبار احتمال اندلاع صراع عسكري مع الصين، وتدرس تجربة البحر الأحمر بعناية. وقال القائد العسكري في البحرية الأمريكية إن الاشتباك الذي دار مع الحوثيين منح المخططين الأمريكيين رؤية أوضح لتعقيدات عمليات الدفاع الجوي المكثفة.

وفي سياق عبث السرديات، قال قائد القيادة الوسطى الأمريكية، الجنرال مايكل إريك كوريلا، إن وكلاء إيران في أضعف حالاتهم، لكن التحدي الأكبر يتمثل في الحوثيين، مشيرا إلى استمرار الدعم العسكري والتقني من خبراء الحرس الثوري الإيراني، الذين يساعدون الحوثيين على تطوير منظومتهم الصاروخية، مؤكدا أن وقف تدفق الأسلحة الإيرانية إلى الحوثيين يشكل تحديا مستمرا، وأن إيران تستخدم الحوثيين لتوسيع نفوذها الإقليمي، وأنها قادرة، عبر أدواتها وعلى رأسهم الحوثيون، على تهديد وإغلاق أهم الممرات البحرية في العالم، في وقت تجني فيه روسيا والصين المكاسب من هذه الفوضى.

بدأ عبث السرديات الأمريكية بشأن الحوثيين منذ بدء تهديداتهم للسفن في البحر الأحمر، ففي فبراير 2024، وخلال مقابلة مع برنامج "60 دقيقة" على شبكة CBS، قال الأدميرال براد كوبر، نائب قائد القيادة المركزية الأمريكية: "أعتقد أنك ستضطر للرجوع إلى الحرب العالمية الثانية لترى شيئا مشابها. نحن نطلق النار، ونتعرض لإطلاق نار، في واحدة من أكثر البيئات القتالية تعقيدا".

وفي يونيو 2024، وصفت تقارير وسائل إعلام أمريكية المواجهات البحرية حينها مع الحوثيين بأنها "أعقد اشتباك بحري منذ الحرب العالمية الثانية"، نقلا عن مصادر في وزارة الدفاع الأمريكية وخبراء دفاع. وأشار أحد القادة البحريين (لم يُذكر اسمه) إلى أن وتيرة الهجمات وكثافتها "تتجاوز حتى حرب الناقلات في الخليج خلال الثمانينيات".

وفي مايو 2024، أكد قادة ميدانيون، مثل القائد جاستن سميث، أن الدفاعات الجوية الأمريكية تواجه تحديات غير مسبوقة في البحر الأحمر، حيث الهجمات الحوثية باستخدام صواريخ باليستية وطائرات مسيرة وصواريخ كروز تحدث بوتيرة شبه يومية. وأشار مسؤولون إلى أن هذه العمليات تمثل اختبارا حيا ومعقدا للدفاعات الأمريكية المتقدمة.

يتضح من خلال النماذج السابقة أن هذه التصريحات لا تقف عند توصيف قدرات الحوثيين العسكرية، بل تتعداها إلى توظيف المواجهة كأداة لتهيئة الرأي العام والعسكري الأمريكي لحروب أكثر تعقيدا في شرق آسيا، لكن واشنطن تقدم الحوثيين كخصم يتجاوز الطبيعة والواقع، مع أنهم ليسوا كذلك، لكن يبدو أن واشنطن تراهم يصلحون كمرآة لتخويف الداخل وإقناع الكونجرس بضرورة استمرار عسكرة المنطقة.

- عدو حسب الطلب

وفي أحدث تجل لعبث السرديات العسكرية الأمريكية، تقف البحرية الأمريكية اليوم لتعلن، بكل جدية سياسية، أن الاشتباك مع مليشيا الحوثيين في البحر الأحمر يوفر نموذجا تكتيكيا مفيدا لأي مواجهة محتملة مع الصين، القوة النووية العظمى وخصم أمريكا الأول على المسرح العالمي. وبذلك يُعاد تقديم الحوثيين في الخيال العسكري الأمريكي كـ"نسخة خفيفة" من بكين، رغم أنه لا مجال للمقارنة مطلقا في هذا السياق.

لكن هذا التشبيه يعكس الانكشاف الفاضح لحالة التخبط البنيوي داخل البنتاجون، فبدلا من الاعتراف بحقيقة عدم رغبة واشنطن بالقضاء على مليشيا الحوثيين، يتم تدوير ذلك التخبط إعلاميا من خلال الزعم بأن الحوثي كان تحديا استثنائيا يصلح لمحاكاة الصين وليس خصما ضعيفا، وتحويله من فصيل محلي محاصر إلى بعبع بحري يصعب القضاء عليه.

بيد أن هذا التهويل من قدرات الحوثيين لا يقف عند الخيال العسكري وحده وعبث السرديات، بل يُعاد تسويقه على طاولة السياسة الداخلية الأمريكية كأداة لصناعة الخوف وتبرير الإنفاق، فحين تُصدّر واشنطن لجمهورها أن الحوثيين -الذين يسيطرون بالكاد على مساحة جغرافية محدودة في اليمن نتيجة تواطؤ وخيانات وليس بفعل قوتهم العسكرية- يشكلون تهديدا إستراتيجيا يعادل خطر الصين، فهي تتجاوز الواقع لتخاطب ميزانية وزارة الدفاع، والرأي العام، وشركات السلاح التي تقتات على أسطورة "الخطر المتزايد".

والأمر الأكثر خطورة أن التضخيم الأمريكي من قدرات الحوثيين يضر بالقضية اليمنية، كونه يضفي على مليشيا محلية فوضوية ما تطمح إليه من شرعية دولية لم تكن تحلم بها، ويغذي خطابها الدعائي الذي تقدمه للمواطنين في الداخل باعتبارها ندا لإسرائيل وأمريكا في وقت واحد.

بمعنى أن الخطر الحقيقي ليس في الحوثيين كما هم في الواقع، بل في الحوثيين كما يُراد لهم في الخيال السياسي الأمريكي، الذي يمكن وصفه بأنه محاولة لتعويم إخفاقات واشنطن في البحر الأحمر وإعادة تغليفها بلغة مديح للحوثيين لتجنب مواجهة الذات، بصرف النظر عن استخدام واشنطن للحوثيين كورقة ضغط مزدوجة: داخليا لتبرير الموازنات العسكرية، وخارجيا لإرسال رسائل غير مباشرة إلى بكين وطهران وتل أبيب والرياض.

- هل الحوثي أصعب خصم منذ الحرب العالمية الثانية؟

من السرديات الأمريكية المبكرة التي تهوّل من قدرات الحوثيين، بعد تهديداتهم للسفن التجارية وغيرها، الزعم بأن المواجهات معهم في البحر الأحمر "أعقد وأشد اشتباك بحري منذ الحرب العالمية الثانية"، لكن هذه المقولة بحاجة إلى تدقيق تاريخي ومقارنة عقلانية مع الاشتباكات التي خاضتها البحرية الأمريكية منذ عام 1941 وحتى اليوم.

كان أقوى هجوم تعرضت له البحرية الأمريكية هو الهجوم المباغت الذي شنته اليابان، في السابع من ديسمبر 1941، على القاعدة البحرية الأمريكية في بيرل هاربر، خلال الحرب العالمية الثانية، وأسفر الهجوم عن تدمير أو إعطاب 19 سفينة حربية، منها 8 بوارج، وتدمير 188 طائرة، وسقوط أكثر من 2400 قتيل أمريكي. وقد غيّر هذا الهجوم مسار الحرب العالمية الثانية، إذ أجبر الولايات المتحدة على دخول الحرب ضد دول المحور، مما تسبب بهزيمتها عسكريا في نهاية المطاف، وأعاد صياغة النظام العالمي لعقود مقبلة.

وعند المقارنة بين هذا الهجوم وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، نجد أن هجمات الحوثيين لم تتسبب في غرق أي سفينة أمريكية أو تعرض مدمرة لأضرار خطيرة، كما أن الخسائر البشرية والمادية ضئيلة جدا، وأما التأثير الإستراتيجي فهو معدوم تماما، فلم يتغير ميزان القوة، ولا الولايات المتحدة دخلت في حرب كبرى جديدة.

وفيما يتعلق بالاشتباكات التي خاضتها البحرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية فهي محدودة، وبعضها مجرد مشاركة في عمليات إنزال كبرى، وتأتي في مقدمة ذلك اشتباكات محدودة خاضتها البحرية الأمريكية مع قوات بحرية صينية وكورية شمالية خلال الحرب الكورية (1950-1953).

وكانت أخطر هجمات تعرضت لها البحرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، ما حدث خلال حرب فيتنام (1955-1975)، عندما تعرضت مدمرات أمريكية لهجمات، أشهرها حادثة خليج تونكين عام 1964، والتي استخدمت كذريعة لتوسيع التدخل الأمريكي، وكانت هناك اشتباكات مباشرة مع زوارق دورية فيتنامية شمالية، وغارات جوية من حاملات الطائرات على عمق أراضي العدو.

كما تبرز عملية "إيرنيست وِل" (1987-1988)، التي جرت في إطار "حرب الناقلات" خلال الحرب العراقية-الإيرانية، جراء تصاعد الهجمات الإيرانية على ناقلات النفط، وبلغ الاشتباك ذروته في عملية "براينغ مانتيس"، التي نفذتها البحرية الأمريكية في أبريل 1988 ردا على إصابة إحدى فرقاطاتها بلغم إيراني، وأسفرت العملية عن تدمير منصات نفطية إيرانية كانت تُستخدم عسكريا، وإغراق فرقاطة وتدمير زوارق حربية إيرانية.

أما في حرب الخليج الثانية عام 1991، فقد نفذت البحرية الأمريكية عمليات تمهيدية لطرد جيش صدام حسين من الكويت، وشاركت في عمليات إنزال ودعم بالصواريخ والطيران، لكنها لم تواجه تهديدات بحرية حقيقية. وكذلك خلال غزو العراق عام 2003 أدت البحرية الأمريكية دورا مهما في إطلاق صواريخ كروز من السفن، لكن لم يكن هناك اشتباك بحري مباشر، لغياب تهديد حقيقي على البحر.

في المجمل، تُظهر الاشتباكات المذكورة أن البحرية الأمريكية خاضت مواجهات تقليدية مع قوات بحرية نظامية، واستخدمت فيها القوة الصلبة على نطاق واسع، بخلاف التهديدات الأخيرة من الحوثيين، التي وإن كانت مزعجة، فإنها لا ترقى إلى مستوى تلك المواجهات في الحدة أو التأثير الإستراتيجي.

فمنذ أواخر عام 2023، شن الحوثيون هجمات عدة باستخدام طائرات مسيرة وصواريخ كروز وباليستية على سفن عسكرية وتجارية في البحر الأحمر وخليج عدن. ورغم الضجيج الإعلامي، فإن النتائج الميدانية ظلت هامشية، فأغلب الهجمات تم اعتراضها بنجاح، ولم تتكبد البحرية الأمريكية خسائر إستراتيجية، ولا توجد معارك بحرية بالمعنى التقليدي (مواجهة سفينة مقابل سفينة).

وكان الطابع الأبرز لهجمات الحوثيين هو استخدام وسائل "حرب غير متناظرة"، من طرف لا يملك قوات بحرية حقيقية، بمعنى أن الحوثيين لا يشكلون تهديدا بحريا إستراتيجيا، والمواجهات في البحر الأحمر لم تكن حربا بحرية، بل ضربات متفرقة تشبه القرصنة المسلحة أكثر من الاشتباكات العسكرية المباشرة.

وبالتالي فالسردية الأمريكية التي تضخم قدرات مليشيا الحوثيين، قد تكون وسيلة لتبرير الحشد العسكري أو تمرير سياسات معينة أو إرسال رسائل لأطراف أخرى، لكنها لا تصمد أمام المقارنة التاريخية، والطرف المستفيد منها هم الحوثيون، لأنها تقدم لهم دعاية مجانية من الصعب أن يروجوها هم عن أنفسهم، وتمنحهم مكاسب إعلامية أكثر مما يتوقعون.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.