تقارير
لماذا ما يزال العالم قلقا بشأن أمن البحر الأحمر؟
على الرغم من توقف الحرب في قطاع غزة، ورسالة مليشيا الحوثيين إلى حركة حماس بأنها ستتوقف عن تهديد الكيان الإسرائيلي والملاحة الدولية عبر مضيق باب المندب، فإن المخاوف العالمية من عودة هجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر ارتفعت مجددا خلال الفترة الأخيرة، بعد ظهور مؤشرات على استعدادهم لاستئناف عملياتهم ضد السفن التجارية، في ظل التوترات الإقليمية المحيطة بالحرب على غزة والصراع مع إيران.
ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، تتعامل شركات النقل العالمية مع البحر الأحمر باعتباره مسارا عالي المخاطر، وتؤكد التقديرات الأمنية أن قدرة مليشيا الحوثيين على ضرب السفن لم تتراجع بشكل جوهري، وأن المليشيا ما زالت تمتلك الأدوات التقنية والميدانية التي تمكنها من إعادة التصعيد متى أرادت في ظل الدعم الإيراني المستمر، وهذا يعزز شعورا عاما بأن العودة الطبيعية للممر ما تزال بعيدة، خصوصا أن الوضع في غزة ما يزال هشا، بينما أزمة إيران مع المجتمع الدولي مستمرة، وإسرائيل تهدد بالحرب على حزب الله اللبناني وتتوعد الحوثيين.
- الخطر قائم
مع استمرار تهريب السلاح من إيران للحوثيين، والمخاوف من انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والضغط الإسرائيلي المستمر على حزب الله اللبناني، وتهديدات الحوثيين بمعاودة استهداف السفن التجارية وتنفيذ هجمات ضد الكيان الإسرائيلي في حال عودة العدوان الإسرائيلي على غزة، كل ذلك يشكل قلقا لشركات النقل الكبرى ويمنعها من المغامرة حاليا في المرور عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
وهناك مخاوف من أن أي تصعيد جديد سيضاعف تكلفة التجارة العالمية، فارتفاع رسوم التأمين، وتحول السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وتأخر البضائع بين آسيا وأوروبا، كلها عوامل ستنعكس على أسعار الطاقة والشحن، وعلى سلاسل التوريد التي ما تزال هشة منذ سنوات.
وعلى المستوى العسكري، هناك مؤشرات على استعدادات غربية لإعادة تفعيل إجراءات الردع في المنطقة، سواء عبر تعزيز الدوريات أو نشر أنظمة مضادة للطائرات المسيرة أو تكثيف المراقبة على السواحل اليمنية، وهذه التحركات تعكس إدراكا بأن التهديد قد يعود في أي لحظة، وأن احتواءه يتطلب تدخلا مباشرا.
ومع ذلك، يظل الموقف الإيراني عنصرا حاسما في تحديد مستوى التصعيد، ذلك أن طهران قادرة على ضبط إيقاع الحوثيين، لكنها لا تبدو راغبة بذلك بشكل كامل، ما دامت المليشيا الحوثية تشكل ورقة ضغط فعالة في إدارة التوترات مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وبالتالي، يرتبط أي تصعيد بحري بمستوى الاحتكاك السياسي والعسكري على جبهات أخرى في الإقليم.
- مخاوف من عودة التصعيد
مؤخرا، عاد القائد في الحرس الثوري الإيراني عبد الرضا شهلائي إلى صنعاء بعد عام من الغياب، كحاكم عسكري ومدني لمليشيا الحوثيين ومخطط لمعاركها المحتملة، وهو ما يثير التكهنات بشأن النوايا الإيرانية خلال الفترة المقبلة، بصرف النظر عن تكهنات البعض بأن الهدف من عودته إلى صنعاء هو تسوية الخلافات في أوساط المليشيا.
وفي المقابل، فإن قلق شركات النقل الكبرى وعدم مغامرتها حاليا في المرور عبر مضيق باب المندب قد يكون جراء حصولها على معلومات أو توصيات من أجهزة استخباراتية ترجح عودة التوتر في المنطقة أو عزم إسرائيل تنفيذ ضربات نوعية ضد مواقع عسكرية لمليشيا الحوثيين واغتيال بعض قياداتها.
وفيما يتعلق بالرسالة التي وجهها رئيس هيئة الأركان الحوثية، يوسف المداني، إلى حركة حماس، فقد تضمنت بوضوح نية العودة إلى الهجمات إذا تجدد العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وأن "الحظر" قد يُعاد على السفن الإسرائيلية أو المرتبطة بإسرائيل، وهذه الرسالة لا تتناقض مع الوقف المؤقت للهجمات على سفن الشحن، فالتوقف قد يقلل من مخاطر الهجوم في الوقت الحالي، لكنه لا يلغي قدرة الحوثيين على التصعيد إذا تغيرت الظروف.
- الخسائر مستمرة
تسببت تهديدات مليشيا الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر بخسائر كبيرة للتجارة العالمية، فكلفة ارتفاع التأمين على السفن تمثل نقطة حرجة، ذلك أن أقساط "مخاطر الحرب" وصلت إلى نحو 1% من قيمة السفينة في بعض العروض، مما يعني أن عبور مضيق باب المندب بات يكلف ملايين الدولارات للسفن الكبيرة.
ووفق وسائل إعلام غربية، فإن هذا الارتفاع في التأمين يخلق ضغطا على شركات الشحن، فبعض السفن قد تُجبر على دفع مئات آلاف الدولارات لكل رحلة، أو تغيير خط سيرها لتفادي المخاطر، مما يزيد من طول الرحلة وتكلفة الوقود.
كما أن هذه التكاليف المرتفعة سيكون لها انعكاسات أوسع على الاقتصاد العالمي، خصوصا قطاع الطاقة، فشحن السلع الأساسية والنفط عبر البحر الأحمر أصبح أكثر تكلفة، مما قد يدفع لارتفاع أسعار الوقود والبضائع عالميا، في حال عودة التصعيد واستمر التهديد ضد السفن لمدة أطول.
ويكتسب هذا التأثير الاقتصادي بعدا أوسع، إذ يتجاوز التجارة البحرية ليطال بنية الاقتصاد الدولي نفسها. فارتفاع تكاليف نقل النفط والمواد الأساسية سيؤدي إلى ضغوط على الأسعار في الأسواق العالمية، بينما يهدد التباطؤ في نقل البضائع استقرار سلاسل التوريد التي تعاني منذ جائحة كورونا ومن الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي يجعل الاعتماد على بدائل المسارات البحرية مكلفا وغير مستدام على المدى الطويل.
- استعدادات هجومية ودفاعية
تفيد تقييمات استخباراتية غربية بأن الحوثيين يعيدون تنظيم قدراتهم لمهاجمة السفن، ويختبرون قدرات صاروخية لمهاجمتها، ويعيدون تنشيط شبكة الرصد الساحلي، بالإضافة إلى إعادة تموضع طائراتهم المسيرة، مع استمرار تهريب الأسلحة ومكوناتها من إيران.
وذكرت وكالة بلومبيرج أن هناك تقييمات عسكرية أمريكية وبريطانية لإعادة تعزيز الدوريات، ونشر أنظمة مضادة للطائرات المسيرة، وتكثيف مراقبة الساحل اليمني، ما يعني أن هناك جهودا تبذل لردع التهديد البحري الحوثي المحتمل، من خلال مزيج من العمليات الجوية والبحرية والتحديثات التكنولوجية.
كما أن الولايات المتحدة بدأت بتحديث منصات السفن الحربية بقدرات دفاعية محسنة، خصوصا فيما يتعلق بأنظمة مكافحة الطائرات المسيرة. وبعض السفن، مثل مدمرات فئة "أرلي بيرك" تخضع لترقيات لأنظمة الرادار ونظم القتال، لتصبح أكثر فعالية في الكشف والتعامل مع الهجمات الجوية الصغيرة.
هذه التحديثات ليست موجهة بالضرورة ضد مليشيا الحوثيين فقط، وإنما تشمل مواجهة الهجمات بالطائرات المسيرة بشكل عام، أي أنها محاولة إستراتيجية طويلة الأمد لضمان حرية الملاحة، وفي الوقت ذاته تحمل رسائل موجهة للحوثيين وإيران بأن واشنطن والغرب عموما لن يقبل بأي تصعيد دون رد عملي ومستدام.
كما أن مثل هذه التحديثات تهدف إلى تقليل مخاطر استخدام الذخائر المكلفة لكل تهديد بواسطة طائرة مسيرة بتنويع أنظمة الدفاع، ففي السابق كان التصدي لطائرة مسيرة رخيصة الثمن يكلف صاروخا أو ذخيرة يبلغ ثمنها أضعاف ثمن الطائرة المسيرة، لكن في التحديثات الأخيرة سيكون التصدي لتلك الهجمات بأنظمة دفاع رخيصة الثمن، لتقليل الخسائر المترتبة على استخدام أنظمة دفاع باهظة التكلفة.
- دعم الحكومة اليمنية
مؤخرا، اتفقت بريطانيا واليونان على أهمية ضمان الأمن البحري وحرية الملاحة في المياه القريبة من اليمن، ووضع ذلك ضمن أولويات عمل الدولتين المشترك في السياسة الأمنية.
ووفقا للموقع الرسمي للحكومة البريطانية، فإن التعاون بين لندن وأثينا سيعمل على رفع قدرات اليمن في حماية مياهه الإقليمية ومن ضمنها تقديم المساعدات التقنية للحكومة اليمنية.
وهناك اهتمام غربي متزايد بأمن البحر الأحمر مؤخرا، سواء فيما يتعلق بتهديدات الحوثيين للسفن التجارية، أو استمرار تهريب الأسلحة الإيرانية لهم عبر الموانئ اليمنية المطلة على البحر الأحمر التي يسيطرون عليها.
وتعاني الحكومة اليمنية بالفعل من محدودية واضحة في قدراتها البحرية، الأمر الذي يجعلها غير قادرة على مواجهة تهديد الحوثيين بمفردها، ذلك أن سيطرة الحوثيين على مساحات واسعة من الساحل الغربي تمنحهم موقعا إستراتيجيا مؤثرا.
ورغم كل تلك المخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي، فإن المقاربات المختلفة لإنهائها تفتقر للجدية والحلول الحاسمة، وتبدو في مجملها وكأنها تطبيع مع تهديدات الحوثيين بدلا من إنهائها، وهو ما يعني أن تباين الحسابات السياسية الإقليمية في اليمن مع المصالح الاقتصادية العالمية يمثل أحد أبرز أسباب عرقلة الحسم العسكري ضد الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة.