تقارير
10 مليون دون صحة نفسية.. أطفال اليمن بين أوجاع الحرب وآمال الحياة
في أحد أحياء العاصمة صنعاء، يقف الطفل محمد الحسيني، البالغ من العمر 10 سنوات، بجوار والده وهو يراقب أقرانه يلعبون كرة القدم في الشارع الذي لطالما كان يذهب إليه للعب بشكل يومي.
يحاول والد محمد تشجيعه على المشاركة في اللعب، لكنه يتردد ويبتعد، وكأن خوفًا خفيًا يمنعه من الانغماس في لحظات الطفولة الطبيعية.
يروي والده أن محمد تعرض لصدمة نفسية ذات ليلة مؤلمة حين كان وحيدًا في غرفته أثناء قصف العدوان الإسرائيلي على المدينة في مايو الماضي.
يضيف والده لقناة "بلقيس": "منذ ذلك الحين، غرس الخوف والرعب في قلب الطفل الصغير، حتى أصبح يرتعد من أصوات الطائرات، ويظن كل دوي بعيد أو قريب أنه انفجار".
ويؤكد أن تأثير الصدمة امتد إلى الحياة اليومية للطفل: "ألاحظ تراجع مستواه الدراسي، وأحيانًا يظهر عليه تيه وانعدام تركيز".
وتابع: "كان ينام وحيدًا في غرفته، أما الآن فلا يستطيع النوم إلا بجواري. كان شجاعًا، لكنه اليوم يعاني صدمة أحاول جاهدًا التخفيف عنه شيئًا فشيئًا".
ويؤكد والد محمد أن الحرب لم تسرق أرواح الكبار فحسب، بل سرقت حتى ابتسامة الأطفال، التي باتت تخفي خلفها مستودعًا من الأحزان المكتومة، والتي تحتاج إلى أسرة واعية وداعمة لتوجيه الطفل ومساعدته على تجاوز آثار الصدمة النفسية للحرب.
- 10 ملايين طفل دون صحة نفسية
مأساة محمد الحسيني واحدة من مآسي ملايين الأطفال في اليمن الذين يواجهون آثارًا نفسية وصدمات كبيرة بسبب الحرب المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، ولا يلوح في الأفق أي مؤشر حتى اليوم لانتهائها.
وبمناسبة اليوم العالمي للطفولة الذي يصادف الـ20 من نوفمبر من كل عام، تكشف الأرقام مأساة الأطفال في اليمن؛ فحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف"، فإن ما يصل إلى 8 ملايين شخص في اليمن بحاجة إلى خدمات الصحة النفسية والدعم الاجتماعي والنفسي.
فيما تقول منظمة الصحة العالمية إن "10.76 ملايين طفل في اليمن يعانون من عدم قدرتهم على الوصول إلى الصحة العقلية، كما يعانون من انقطاع الوصول إلى التعليم الجيد، الذي يشكل مصدر قلق فيما يتعلق بالنمو المعرفي والعاطفي للأطفال".
وأشارت المنظمة إلى أن الحرب التي تشهدها اليمن منذ أواخر عام 2014، دمّرت البنى التحتية المختلفة، والكيان الاقتصادي للدولة، والنسيج الاجتماعي في البلاد.
وقالت إن الحرب لا تزال بوادر إيقافها غير واضحة الملامح حتى الآن، رغم الكلفة الواسعة التي دفعها المدنيون حتى اليوم، وتبرز آثارها يومًا بعد آخر، وما صحة الأطفال النفسية إلا واحدة من مشكلات لا حصر لها.
- الآثار الصحية
في هذا الصدد، أكدت الدكتورة أسماء البريهي، أخصائية أطفال، أن واقع الأطفال الصحي في اليمن في ظل الحرب يكشف عن سلسلة من الآثار الخطيرة التي تتكرر في معظم الحالات التي تعايشها يوميًا.
وأضافت البريهي في تصريح لقناة "بلقيس" أن سوء التغذية يأتي في مقدمة هذه الآثار، حيث يعاني أغلب الأطفال من نقص واضح في العناصر الأساسية، خصوصًا البروتينات والفيتامينات، الأمر الذي ينعكس مباشرة على وزنهم ومناعتهم ونموهم الجسدي والعقلي.
وأوضحت أن ضعف المناعة الناتج عن سوء التغذية والضغوط المستمرة يجعل الأطفال أكثر عرضة للالتهابات المتكررة، سواء التنفسية أو المعوية أو الأمراض المعدية التي تنتشر بسهولة في بيئات غير مستقرة.
كما أكدت أن الجانب النفسي لا يقل خطورة، مشيرة إلى أنها تشاهد يوميًا أطفالًا يعانون من اضطرابات النوم والخوف والتبول اللاإرادي وفرط التوتر، نتيجة ما عاشوه من صدمات مباشرة أو غير مباشرة.
وأشارت الدكتورة أسماء إلى وجود حالات متزايدة من تأخر النمو، سواء في النمو الجسدي أو في النطق والتفاعل، وغالبًا ما ينتج ذلك عن مزيج من سوء التغذية وقلة الاستقرار المحيط بالطفل.
ونوّهت إلى أن الأطفال المصابين بأمراض مزمنة مثل الربو أو مشكلات القلب لا يحصلون على المتابعة الطبية المنتظمة، ما يؤدي إلى تدهور تدريجي في حالتهم الصحية.
وجدّدت الدكتورة أسماء التأكيد على أن هذه المشكلات مجتمعة ليست إلا انعكاسًا مباشرًا للظروف القاسية التي يعيشها البلد، من نقص الغذاء والخدمات الطبية إلى الضغوط النفسية التي ترهق الأطفال وأسرهم.
- صدمة جماعية
من ناحيتها، أكدت الدكتورة أمة الودود عبدالله، عضو المجلس الاستشاري الأسري اليمني، أن الحرب خلّفت آثارًا نفسية واجتماعية عميقة على الطفل اليمني، وصفتها بأنها تمثل شكلًا من "الصدمة الجمعية" التي أصابت الجسد والنفس والعقل معًا.
وأوضحت في تصريح لقناة "بلقيس" أن مشاهد العنف وأصوات الانفجارات وحالات الفقد المتكررة زرعت في الأطفال قلقًا وخوفًا دائمين، وخلقت لديهم يقظة عصبية مستمرة تظهر في هيئة كوابيس واضطرابات النوم ونوبات غضب وانفعالات حادة.
وأضافت أن الصدمات المتراكمة دفعت كثيرًا من الأطفال إلى الانسحاب الاجتماعي وضعف الانتباه والتشويش الذهني وفقدان الشعور بالأمن والاستقرار، وهو ما انعكس على تقديرهم لذواتهم وثقتهم بمجتمعهم.
كما أشارت إلى أن آثار الحرب الاجتماعية زادت من هشاشة الأطفال، حيث أدى الفقر وتدهور المعيشة إلى سوء التغذية وضعف النمو، بينما دفعت الظروف القاسية ببعضهم إلى العمل المبكر في أعمال لا تناسب أعمارهم وتعرضهم لصدمات جديدة.
وأكدت أن التفكك الأسري والنزوح والعنف المجتمعي رسّخوا أنماطًا سلبية من السلوك والتعلم العنيف، وأسهموا في ضعف المهارات الاجتماعية وتراجع الرغبة في التعلم.
وجدّدت الدكتورة أمة الودود التأكيد على أن كل هذه التحديات تمثل جزءًا بسيطًا مما يواجهه الطفل اليمني يوميًا، في ظل غياب الدعم النفسي والاجتماعي القادر على الحد من تراكم هذه الصدمات وتحولها إلى عبء يمتد إلى الأجيال القادمة.
- واقع مرير
من جهتها، أوضحت رئيس مؤسسة المرأة الآمنة، ابتهال الأغبري، أن سنوات الحرب الطويلة خلّفت آثارًا تتجاوز المشكلات النفسية أو الصحية المباشرة، لتصل إلى تغيّر عميق في مسار حياة ملايين الأطفال في اليمن.
وأكدت الأغبري في تصريح لقناة "بلقيس" أن ما يعيشه الطفل اليمني اليوم لم يعد مجرد معاناة فردية، بل أزمة ممتدة يتداخل فيها الجانب النفسي والتعليمي والاجتماعي.
وفي الجانب التعليمي، أشارت إلى أن ربع الأطفال في سن الدراسة لا يرتادون المدارس، مؤكدة أنه رغم الجهود المبذولة اليوم إلا أن أثر الحرب ما يزال واضحًا في تراجع التحصيل الدراسي وضعف القدرة على التركيز والمتابعة لدى الأطفال.
وأكدت الأغبري أن استمرار الحرب دفع كثيرًا من الأسر إلى أدوار قسرية ألقت بأعبائها على الأطفال، سواء بتحمل مسؤوليات الكبار داخل الأسرة، أو انخراطهم في أعمال شاقة وغير آمنة نتيجة الفقر أو فقدان المعيل.
وأضافت أن تفكك الأسر وإغلاق المدارس وانعدام الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء وغياب المساحات الآمنة للعب ساهم في توسيع دائرة المعاناة اليومية للأطفال.
وأكدت أن هذه الأرقام وما خلفته الحرب من تحديات نفسية واجتماعية وتعليمية تشكل مشهدًا مقلقًا لمستقبل الطفولة في اليمن، وتستدعي تدخلات جادة تمتد إلى ما هو أبعد من الإغاثة، لضمان حماية جيل بأكمله من الانهيار طويل الأمد.