تقارير
التحالف السعودي الإماراتي وصناعة الانقسامات في حضرموت
تزداد حدة التوتر والانقسامات في محافظة حضرموت، وتلوح معها احتمالات الانزلاق نحو صراع داخلي، وتعكس هذه التطورات السياسات الممنهجة للتحالف السعودي الإماراتي في اليمن والتي تقوم على إدارة الانقسامات وتغذيتها وصناعة الأزمات بما يضمن إضعاف اليمن بكل مكوناته وإدامة حالة عدم الاستقرار.
لمحافظة حضرموت وزن سياسي واقتصادي وحضور مؤثر في ديناميكيات الشأن المحلي، إلى جانب تماسكها الاجتماعي الذي جعلها أقل عرضة للاقتتال الداخلي مقارنة بمحافظات أخرى، بل وجنبها أيضا دورات الصراع والحروب الأهلية التي شهدتها اليمن قبل الوحدة الوطنية وبعدها.
هذا التميز الاستثنائي لمحافظة حضرموت، أوجد حساسية خاصة لدى التحالف السعودي الإماراتي، فهذه المحافظة، بمواقفها من الوحدة الوطنية والحكومة الشرعية ورفضها تسلط المجلس الانتقالي، تمثل حالة مغايرة للتوجهات التي يسعى التحالف لفرضها، الأمر الذي يفسر الجهود المستمرة لتفكيك نسيجها الداخلي وإعادة تشكيله وفق أولويات خارجية.
كما أن ما يجري في حضرموت اليوم لا يمكن فصله عن السياق العام والأوسع للحرب في اليمن، إذ أصبح واضحا أن تغذية الانقسامات تمثل سياسة متعمدة تهدف إلى منع بروز قوة محلية متماسكة قادرة على صياغة مشروع وطني مستقل، أو تبدي التفافها حول الدولة والوحدة والنظام الجمهوري، أو تعمل بشكل مغاير لسياسات التحالف في اليمن.
- في مهب التفكيك والانقسامات
في آخر تطورات الشأن الحضرمي، صدرت أوامر قبض قهرية من النائب العام بخصوص بعض الرموز الاجتماعية في المحافظة، وهم: الشيخ عمرو بن حبريش (رئيس حلف قبائل حضرموت)، واللواء مبارك العوبثاني (قائد قوات حماية حضرموت)، والدكتور سعيد عثمان العمودي (وكيل المحافظة). وقد اجتمع حلف مشايخ حضرموت لمناقشة تداعيات تلك الأوامر القهرية، التي تهدف إلى زيادة التوتر في المحافظة وعدم استقرارها.
وكان التوتر في محافظة حضرموت قد بدأ منذ سنوات، على وقع تزاحم مشاريع خارجية، تمثلها مليشيا المجلس الانتقالي المدعومة إماراتيا، وقوات "درع الوطن" المدعومة من السعودية، وهناك حلف قبائل حضرموت الذي يبرز كطرف رئيسي في الدفاع عن حقوق حضرموت، بالإضافة إلى قوى أخرى متفاوتة في نفوذها وحضورها الاجتماعي، وسط غياب للسلطة الشرعية في محافظة تصارع وحيدة أمام مشاريع تفكيكها ومحاولات جرها إلى صراعات دموية.
ويعكس التقاسم الخارجي للنفوذ وتغذية الصراعات في محافظة حضرموت، سياسات مدروسة وممنهجة وتمضي بتخطيط وترتيب دقيق لتفكيك وإضعاف آخر تكتل اجتماعي قوي ومتماسك في بلد عصفت به الانقسامات والتشظيات التي هندستها الأطراف الخارجية، وتتم تغذية الانقسامات والخلافات في حضرموت بشكل مرحلي، وسط تدفق السلاح والدعم الخارجي وتمويل كل طرف خارجي لحليفه المحلي وتحريضه ضد الأطراف الأخرى.
هذه المؤامرات على حضرموت وتصدير الخلافات (المفتعلة) لتفكيكها، تسمى في الأدبيات السياسية بإستراتيجية تفكيك الدول عبر تصدير الخلافات، ما يعني أنها مدروسة ومخطط لها ومتفق عليها بين الأطراف الخارجية.
ويُقصد بذلك أن عدة قوى خارجية (السعودية والإمارات هنا ودورهما في اليمن بشكل عام وحضرموت بشكل خاص)، متدخلة في بلد ضعيف أو تعصف به حرب أهلية، تتفق على افتعال أو تضخيم خلافات فيما بينها، ثم تصدر هذه الخلافات إلى وكلائها المحليين، وكل طرف يدعم وكلاءه بالمال والسلاح.
ومع الوقت، يتحول الحلفاء إلى أطراف متصارعة بالوكالة، فتتفكك الجبهة الداخلية، وتستمر الفوضى دون حسم، والهدف غير المعلن هو منع قيام دولة قوية، وإبقاء البلد ساحة صراع مستدامة تُدار من الخارج عبر الوكلاء المحليين بعد تصدير الخلافات المفتعلة إليهم.
ومن الواضح أن تدخل السعودية والإمارات في اليمن لم يكن بهدف إنقاذه، وإنما إعادة صياغته بما يخدم مصالحهما، وفي البداية كان المشهد يبدو وكأنه تقاسم نفوذ: هذه الدولة تدعم أطرافا معينة، وتلك تشكل مليشيات مسلحة، وكل طرف يمد وكلاءه بالمال والسلاح، والكل يرفع شعارات الأمن والاستقرار واستعادة الدولة والتهدئة.
لكن ما يحدث لاحقا أخطر بكثير، فالسعودية والإمارات لجأتا إلى افتعال الخلافات فيما بينهما، وتضخمان تباينات صغيرة حتى تبدو كصدامات كبرى، وهذه الخلافات لا تبقى في عاصمتيهما، ولا تظهر في أي ملف آخر في المنطقة، وإنما يتم تصديرها مباشرة إلى اليمن، حيث يتلقفها الوكلاء بحماسة، وفجأة يصبح الحليف حاقدا على شريكه في المعركة، والميدان الذي كان جبهة واحدة ضد عدو رئيسي، يتفتت إلى جبهات صغيرة متناحرة.
وفي النهاية، تصل الدولة إلى مرحلة التفكك الكامل، حيث تنهار المركزية، وتخرج كيانات متناحرة من رحم الحرب، والغاية من كل هذا واضحة: منع أي قوة محلية من التبلور، وإبقاء البلد في حالة استنزاف دائم، واستغلال موقعه وموارده من خلال وكلاء ضعفاء لا يملكون قرارهم، والنتيجة دائما واحدة: حرب أهلية طويلة، وتآكل الهوية الوطنية، وتفكك مؤسسات الدولة، واستدامة الارتهان للخارج، لأن الوكلاء المحليين لا يمكنهم الاستقلال بقرارهم.
إنها ببساطة مؤامرات مكشوفة: الاتفاق على التدخل العسكري ضمن تحالف فضفاض وغير واقعي، ثم اتفاق على افتعال الخلافات، لينتقل الصراع المفتعل من غرف المخابرات إلى الأزقة الممزقة، والهدف الرئيسي هو إسقاط البلد نهائيا من خريطة الدول المستقرة بأيدي أبنائه، وجعله مسرحا للفوضى المستدامة، وصراع دائم يستهلك الموارد ويمنع قيام دولة قوية، بل وتفكيكها إلى كيانات أصغر، والحيلولة دون أي مشروع وطني جامع.
- كيف تفسر النظريات السياسية أداء التحالف في اليمن؟
الحديث عن مؤامرات التحالف السعودي الإماراتي على اليمن، ومحاولات تفجير الوضع عسكريا بين الحضارم، وتفكيك البلد عبر تقاسم التحالفات وصناعة الوكلاء المحليين ثم افتعال الخلافات وتصديرها إليهم، هي ظاهرة موجودة في الأدبيات السياسية ولها جذورها في العديد من النظريات السياسية ونظريات الحروب بالوكالة أو الأمن الإقليمي المعقد، بمعنى أن الخلافات هنا ليست عرضا جانبيا لتنافس الأطراف المحلية، وإنما هي أداة مقصودة، وهندسة متعمدة لإبقاء البلد مسرحا للفوضى.
ويمكن فهم ما يجري في حضرموت واليمن عموما من خلال مجموعة من المقاربات النظرية التي تفسر كيف تتحول الخلافات المصطنعة بين القوى الخارجية إلى أدوات لتفكيك الدول وإدامة هشاشتها، فيما يلي بعضها:
• إستراتيجية تصدير الخلافات المفتعلة: هذا النمط يتجاوز الطرح الكلاسيكي لنظرية الأمن الإقليمي المعقد، التي تركز على التهديدات الحقيقية بين القوى الإقليمية. ففي الحالة اليمنية، لا يوجد خلاف جوهري بين السعودية والإمارات على مستوى المصالح العليا، وإنما يتم افتعال خلافات شكلية، وتضخيمها عمدا لتصديرها إلى الداخل اليمني عبر الوكلاء المحليين، وهنا يصبح "الخلاف المفتعل" أداة هندسية لتفكيك النسيج الاجتماعي، وليس نتيجة تناقض طبيعي في بنية العلاقة بين الرياض وأبوظبي.
• نظرية الحروب بالوكالة: تفسر كيف تحول القوى الإقليمية خلافاتها أو مصالحها إلى نزاعات تدار عبر وكلاء محليين، لكن في اليمن تأخذ هذه النظرية بعدا جديدا، فبدلا من أن يكون النزاع انعكاسا لصراع خارجي، أصبح الصراع الخارجي نفسه مفتعلا ومصمما خصيصا ليدار بالوكالة داخل اليمن، أي أن اليمن تحول إلى ساحة اختبار للهندسة الصراعية، حيث يتم تغذية خطوط انقسام جديدة كلما ظهرت بوادر قوة محلية متماسكة.
• مقاربة الفوضى الخلاقة: ترى هذه المقاربة أن القوى المهيمنة قد تعمد إلى إدارة صراعات مصطنعة من أجل ضمان سيولة سياسية وأمنية تمنع تشكل أي دولة قوية منافسة. وفي السياق اليمني، يمكن فهم تغذية الانقسامات في حضرموت باعتبارها تطبيقا مباشرا لهذه المقاربة، حيث يعاد إنتاج الأزمات بشكل مستمر لمنع استقرار النسيج الاجتماعي الحضرمي الذي بقي نسبيا بمنأى عن الاقتتال.
• إدارة الصراع بدلا من حله: بينما تسعى الجهود الدولية عادة لحل النزاعات، يلجأ التحالف السعودي الإماراتي إلى "إدارة الصراع"، أي الإبقاء عليه تحت السيطرة دون السماح بانتهائه، وبالتالي فإن افتعال الخلافات بين طرفي التحالف وتصديرها إلى حضرموت مثال حي على هذا النمط، إذ يتم تفجير توترات محسوبة، ثم ضبطها بحيث لا تحسم، وإنما تبقى مشتعلة بالقدر الكافي لإضعاف الداخل، ومنع تبلور أي قوة وطنية مستقلة.
إذن ما يجري في حضرموت لا يمكن قراءته باعتباره مجرد انعكاس طبيعي للتنافس السعودي الإماراتي، وإنما هو تطبيق متعمد لما يمكن تسميته بإستراتيجية تفكيك الدول عبر تصدير الخلافات المفتعلة، أي أن الصراع نفسه يتم "تصنيعه" و"تغذيته" كأداة لإدارة نفوذ الرياض وأبوظبي، بحيث تظل اليمن ساحة هشة، عاجزة عن النهوض بمشروع وطني جامع، وتظل القوى الخارجية الممسك الحقيقي بخيوط اللعبة.