تقارير
بسبب الغلاء وسوء الأوضاع.. أبناء تعز يلجأون إلى التجارة بالمنتجات الطبيعية والشعبية
قناة بلقيس - خاص - هشام سرحان
في إحدى مديريات ريف تعز، يتجوّل الرجل المُسن سعد مهدي (65 عاماً)، في المساء، بين شعاب قريته الصغيرة، بحثاً عن بعض الأعشاب وأوراق النباتات المتسلّقة، المعروفة بين السكان المحليين ب'الحلص' و'الحلقة' و'العثرب'، فيملأ كيسه البلاستيكي منها، التي تجود بها الطبيعة دون أن تطلب ثمناً لها، ثم يعود إلى منزله، وينظفها، ويضعها في قِدْر، ويغمرها بالماء، ثم يشعل موقده البدائي، الذي يعمل بالحَطَب، ويغليها لعدة ساعات.
في صباح اليوم التالي، يُجري عليها بعض التحضيرات، إذ يتم فصلها عن الماء، وطحنها بطريقة يدوية على حجرة مخصصة لذلك، مع إضافة الفلفل وأوراق بعض النباتات العِطرية، التي تمنحها مذاقاً جيداً ونكهة مميَّزة، وما إن تنتهي هذه العملية، حتى يتم وضع كميات متواضعة في أوانٍ صغيرة، وتناولها في الإفطار والغداء، بعد مزجها باللّبن الرائب.
يجد مهدي وأسرته في عدد من المنتجات الطبيعية، وكذلك الشعبية، ك: حليب الأغنام، والأبقار، ومشتقاته، فضلاً عن السمن البلدي، بديلاً مناسباً للمواد الغذائية المصنّعة محلياً، أو المستوردة، التي تشهد شحة وارتفاعاً حاداً في أسعارها، ما يصعب على هذا الرجل الرِّيفي ابتياعها، ويجعله يعزف عن بعضها، كما يدفعه نحو التفكير والبحث عن بدائل مناسبة وقليلة الكُلفة، وهي عملية يستند فيها إلى ثقافته، ومعتقداته المتوارثة.
ويقول لموقع "بلقيس": "كان أبي وجَدِّي لا يعرفان الكثير من المواد الغذائية التي تتواجد اليوم في المحلات والأسواق، وكانوا يعتمدون على مزارعهم ومواشيهم في تأمين معظم احتياجاتهم الغذائية".
ويُوقن بأن الأصناف الطبيعية والشعبية صحيّة، وذات قِيمة، وفوائد غذائية كبيرة، وتمنح الجسد القوّة، والنشاط، والحيوية، والصحة، وكانت تُستخدم في التداوي من الأمراض، كما أنّها نقيّة وخالية من المواد الكيميائية، وليس لها آثار وأعراض جانبية، ولا تتسبب بأي أمراض، في حين يقلل من مواصفات وفوائد وقِيمة المواد الغذائية التي يروَّج لها اليوم في المحلات والأسواق، ويعتبرها سبباً للخمول، وضعف البِنية، والقوّة الجسدية، والعلل، والأمراض المنتشرة حالياً بكثرة.
تبعات
ويذكر: "كان الأوَّلون -في إشارة إلى أسلافه- يأكلون كل شيء طبيعي، ولا يتناولون المواد المصنّعة، وكانوا لا يعرفون المرض، ولا يذهبون إلى الأطباء، وينعمون دائماً بموفور الصحة والعافية، وطول العُمر، وجمال الطلعة، وبهاء الملامح".
يُفاقم غلاء أسعار المواد الغذائية الجنوني من معانات المواطنين، ويُثقل كاهلهم، ويجعلهم يترنحون تحت ثقل هذا العبء، والحمل الكبير، ويجعلهم يغرقون في شرودهم، ويتحسسون بؤس وشقاء حاضرهم، ويستشعرون خطورة المأزق المادي والمعيشي والإنساني الذي وقعوا فيه، ووجدوا أنفسهم محاطين بالعجز عن إطعام أسرهم، وتأمين وجباتها الصحيّة المتكاملة، وغيرها من متطلبات العيش الضرورية، التي أُجبروا على التخلِّي عن العديد من مفرداتها لصالح توفير قوت الحياة الضروري، والبحث عن بدائل متواضعة.
وتعيد موجات الغلاء الحادة، في المدينة الواقعة جنوب غرب البلاد، مهدي وغيره إلى ما قبل عقود، ليعيشوا نسخة ثانية من تلك الحياة، التي كانت فيها مائدة القدامى مستمدة من البيئة المحلية، وعامرة بالمأكولات، والمشروبات الطبيعية، والشعبية المتوارثة، ك: الشُّربة، والفتَّة، والعصيد، والزَّوْم، والسحاوق، واللِّبَا، والفَطِيْر، والجُبٔن، والسَّمْن، والحَقِيْن، والعَسَل، والدَّجاج، والبَيْض، البلَدي، وحلِيب الأغنام، والأبقار، والإبل، والضأن، ولحومها، وكذا الأسماك والوَزِفْ (صغار السمك المجفف)، وأصناف متعددة من الحلوى المصنوعة محلياً، فضلاً عن الخضروات، والفواكه والثمار، وأنواع الحبوب، والبُن.
وتُحضَّر وجباتها الخالية من أي مواد مصنَّعة بطُرق تقليديّة، ووسائل بدائية، وتُصنع نكهاتها المميَّزة من الطبيعة أيضاً،
إذْ لا تدخل عليها نكهات صناعية، بل تُضفي مكوِّنات مثل: الزَّعتر، والحَبْة السَّوداء، والبَهَارات، والنّباتات العِطرية وغيرها، وهو ما يجعل لها مذَاقا خاصا، ورائحة مميَّزة، تطوف بين المنازل، وتعَطِّر أرجاء القُرى، وهي تفاصيل مازالت خالدةً في ذاكرة وأنفاس أحمد حسن (68 عاماً)، الذي يحنُّ إلى الوجبات الطبيعية، والشعبية التي كانت تعدُّها والدته، والأجواء الريفية التي كانت ترافقها، وذلك بعد 30 عاماً من مغادرة قريته، والإقامة في المدينة، التي يستعيد فيها اليوم جُزءا من ماضيه، ويُحيي ولَعَه الغابر بالمأكولات التقليدية، التي تبعث بها والدته جاهزةً، أو تُرسل بمكوَّناتها الأساسية، التي تمكِّن زوجته من إعدادها بشكل نهائي.
تفاصيل
ويذكر حسن لموقع "بلقيس": "في السنوات السابقة، كُنا نشتهي المأكولات الشعبية، التي كانت تُهديها أو تُرسلها لنا أمي -أحياناً- من القرية، لكننا اليوم وجدنا أنفسنا مُجبرين على البحث عن بدائل للمواد الغذائية المصنّعة والغالية جداً، وذلك بالعودة إلى المنتجات الطبيعية والمحلية، وإعداد طعامنا منها".
يحصل حسن وآخرون على تلك المنتجات من أُسرهم المقِيمة في القرى، فيما يلجأ البعض إلى البحث عنها في الأسواق الشعبية، التي من أبرزها: سوقا "الحبوب" و"الشنيني" التاريخيين، اللّذين يحتفظان بطابعهما الشعبي والأصيل منذ قرون، ويرفدان الزبائن بالعديد من الاحتياجات والمتطلّبات.
أضحت المأكولات والمشروبات المستحضرة من المواد الطبيعية والشعبية، مؤخراً، وجْهة مفضّلة للمواطنين، الذين وجدوا فيها بديلاً مناسباً لنظيراتها المعلَّبة والمصنَّعة، كما تزايد إقبالهم عليها، وارتفع معدل رواجها وحضورها في أوساطهم، وتصدَّرها موائدهم ومنصاتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، التي يغرِّدون فيها عن التغيّر الحاصل في نمط وأسلوب حياتهم، ويستعرضون بشيء من التباهي أبرز الوجبات التقليدية، التي عادوا إليها، وتذوقوها، ونالت استحسانهم، ويرفقون منشوراتهم بصور لموائدهم، وما طرأ عليها من تغيّر مُحبب، تجسّد في احتوائها على وجبات شعبية ومستحضرة من منتجات طبيعية، وشعبية بحتة، وقادمة من رَحِم الموروث الشعبي، والبيئة المحلية، وهو ما تشير إليه مصادر متطابقة.
يرجع إعلاميون التوجّه المتزايد نحو المنتجات الطبيعية والشعبية إلى غلاء وشِحة الأدوية، والمستلزمات الطبية أيضاً، الخاصة بفيروس 'كورونا'، والحُميّات الفيروسية المنتشرة بكثافة، الأمر الذي يدفع العشرات نحو تلك المنتجات، التي يعتقدون أنها مقوِّية للمناعَة، ومُضادّة للفيروسات، وفعّالة في علاج الملاريا، وغيرها من الأوبئة، وهو اعتقاد متوارث منذ عقود.
إلى ذلك، يُرجع مهتمون غلاء أسعار الأغذية إلى ضعف منظومة الإدارة المحلية، وغياب الدَّور الرقابي، وانهيار قِيمة العملة المحلية، مقابل العملات الأجنبية الأخرى، في حين تقول مصادر رسمية إن أسعار الأغذية والمواد الأساسية تشهد ارتفاعاً حاداً، وذلك جراء الحصار المفروض على تعز من قِبل مليشيا الحوثي، للعام السابع على التوالي، وما رافقه من إغلاق للمنافذ البرية الرئيسية، ومنع دخول الغذاء، والدواء، والمياه، والمساعدات، وغيرها من متطلبات الحياة، إلى جانب طول الطريق البديلة، ووُعورتها، وما تفرضه من زيادة في تكاليف النّقل والمواصلات، التي تُضاف إلى قِيمة السلع، والبضائع، وتضاعف أسعارها، التي يتكبّدها المواطن البسيط.