تقارير

حراج العمال.. جسد اليمن المنهك وأحلامه المصادرة

05/01/2023, 08:52:48
المصدر : خاص - منصور النقاش

هل تريد أن تُؤمن؟ تعال إلى هذا المكان في هذا الوقت من الفجر. لا تذهب إلى المسجد، فهنا ستجد الله في دعائهم وابتهالاتهم (يا الله برزق العيال)، دعاء دون تملق أو خشوع مفتعل ..  

في حراج العمال في الصافية بصنعاء، وفي شارع السلفي من الشيخ عثمان، بوسعك أن تشاهد بروفة حيّة ليوم المحشر "حيث يتناسلون من مخادعهم التي عادة ما تكون رصيفا متعبا مثلهم، يمضون بأحلام وآمال ضئيلة، تنتهي عند رغيف خبز ومأوى، وما تبقى من النذر اليسير، ليعودوا به إلى ديارهم حاملين لأطفالهم شيئا من البهجة والنقود".. 

هناك يتقاطرون صباحا ومساء، مكدودون، عليهم غبرة "الطفر"، ترهقهم ذلة البطالة وقسوة الحرب. ربما لأنهم غير مميّزين ولا عباقرة نافذين.. وربّما لأنهم يلقون الطَرف السمجة، والأفكار البسيطة، كما أنهم يبحثون عن الأزقة ليتبولوا فيها، ولا يستخدمون فرشاة الأسنان. ولا يعرفون من هو "رينيه ديكارت" ولا "بابلو نيرودا"، ولو سألت عن "مارلين مونرو" قد يردون بتعجّب ما إذا كانت ماركة سيجارة مهرّبة!!

ها هم محمّلون بأوجاعهم ومتاعبهم، يمضون في صمت نحو أشد تغريبة لمواطنين في وطنهم، إنهم معنا على الأرجح لكنهم مغيّبون عن الأنظار، إذا حضرت الأضواء تواروا هم. 

زهاء خمسة ملايين عامل كبرت الحرب وأكلت رزقهم، فوجدوا أنفسهم على أرصفة البطالة، لا مرتبات لهم ولا حوافز ولا تأمين صحي..

- بين الموظف وعامل الأجر اليومي

تمتد قضية رواتب الموظفين المدنيين في اليمن إلى أروقة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، ووردت في اتفاق ستوكهولم، الذي نص على دفع مرتبات موظفي الخدمة المدنية في جميع أنحاء اليمن من عائدات وضرائب النفط، وموظفو الجهاز الإداري هنا هم موظفو الجهاز الإداري المدني للدولة، البالغ عددهم 653,477، وإن كان هذا الملف يمضي دون إنصاف إلا أن الحديث حوله أخذ جهات شتّى عنهم دون جدوى.

 بالمقابل، يظل قرابة خمسة ملايين عامل بحاجة إلى من يحميهم من جور البطالة أو من الاستغلال الجائر، سواء على مستوى عدد ساعات العمل أو على تقنين، وتحديد الأجور والتأمين الصحي والمهني والضمان الاجتماعي، فهم من فئات الأجور اليومية والصيادين والمزارعين وأرباب المهن الحرة، أو كما يقال عنهم الشغيلة، أو عمّال "المياومة" ممن يمثلون هيكل النظام الاجتماعي الأدنى والمعبّر عن حالة اليمن، البلد الذي يشهد "أسوأ أزمة إنسانية في العالم" خارج دائرة الاهتمام، وهم الشريحة الأكبر والأوسع في البلاد والأكثر غبناً.

تحولات كبيرة وأكثر عمقا ضربت تركيبتنا وهيكلنا الاجتماعي منذ انقلاب الحوثيين على السلطة.

- آثار الحرب

 شكّلت الحرب آثارها البالغة على هذه الشريحة من أصحاب الأجر اليومي على المستوى الاقتصادي الاجتماعي والأسري والنفسي، أضف إلى ذلك توافد العمالة التي تم ترحيلها من البلد الجار السعودية، فانهارت الكثير من الأسرة متوسطة الدخل، ودخلت خط الفقر.

لنا أن نستوعب مآل العامل اليمني، الذي تآكلات فرص عمله، ناهيك عمّن صدرتهم المدارس والجامعات والمعاهد ممن تسرّبوا أو تخرّجوا إلى سوق العمل، ومن نبذتهم جماعة الحوثي من وظائفهم، ومن قضت الحرب على وظائفهم بتدمير مواقع عملهم من المنشآت الصناعية والإنتاجية، فذهبوا إلى مزاحمة عمال الأجر اليومي على رزقهم..

 عادةً ما تقف النقابات والاتحادات، أو حتى التشريعات الخاصة بحقوقهم مساندة لهم، غير أن للحرب قانونها الخاص، وغلاء المعيشة يكاد يلتهم الأخضر واليابس، وفرص العمل تشح، وبالتالي تزداد نسبة البطالة، مما يشجّع أصحاب الأعمال والنافذين في المشاريع على ممارسة الابتزاز  بحسب قانون العرض والطلب، حيث تتهافت الجموع الغفيرة على العمل بأقل سعر للحصول على قوتهم اليومي فقط.

 - تعثر مصادر الدخل

 تقول بعض التقديرات - غير الرسمية - إن نسبة العاطلين عن العمل تبلغ 28,3% من الشباب، أي أن هناك خمسة مليون عاطل عن العمل من مختلف الأعمار.

وبهذا الخصوص، يقول الأستاذ محمد السامعي -نائب مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في مأرب- إن "الحرب خلقت الكساد، وانقسام العملة خلّف انهيارا اقتصاديا، وأصبح الفارق ستة أضعاف على ما كان عليه سعر صرف العملة قبل الحرب، وشحت فرص العمل، وإغلاق الكثير من المنشآت، ونزوح رأس المال الوطني، والشركات الأجنبية كانت تشتغل بكل طاقتها، مثلا كان لدينا في مأرب 18 شركة نفطية ومقاولون، وكان لهم دور كبير في تشغيل اليد العاملة، أما الآن كل شيء مجمّد".

من جهته، يرى فؤاد الفقيه -نائب مدير مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل- في تعز: "إن هناك عمالة لديهم أعمال في مناطق خارج المدينة مثلا في إب وذمار، لكن انقطاع الطريق والحصار وزيادة أسعار أجور الطريق أدى إلى بطالة كبيرة".

وهناك من الأسر من تشردت وتفككت جراء حالة الإحباط لما تخلّفه البطالة من آثار سلبية ساعدت في انتشار الجريمة وتزايد الحالات النفسية.

الدكتور عادل ملهي -مدير مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في تعز- يقول: "الكنتونات والحصارات، التي تقسم المدينة الواحدة والحي الواحد، هي أكبر دليل على أننا سنعيش فترة طويلة من المرض والحاجة التي قد لا تظهر الآن لكن حين يزيد الضغط يحدث الانفجار

هذا الأمر يجب أن يؤخذ بالاعتبار وبدل المبالغ التي تهدر في الشكليات والاحتفالات يفترض أن يكون جهة مهتمة بعمال الأجر اليومي".

- البطالة هي الراعي الأول للجريمة

يعود الدكتور عادل ملهي -مدير مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في تعز- ليؤكد "الضعيف سيكتئب والأضعف سينتحر، أما القوي سيأخذ حقه بأي طريقة، وقد تكون هذه الطريقة هي السطو أو التعرض لأملاك الآخرين، ولن تقتطع يد إذا كانت الحاجة موجودة".

ويضيف ملهي: "المرض النفسي قرين الحاجة، والحاجة هي المسيطرة على هذه الشريحة الواقفة على باب الله، ينتظرون من سيحتاج إليهم، ونأمل من البيوت التجارية الكبيرة أن تمنحهم المال كصدقة مقابل العمل".

ويذهب نائب مدير مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل في تعز -فواد الفقيه- إلى أن "البطالة خلقت تدهورا في الحالة الصحية والنفسية، وهناك حالات انتحار وجرائم، بسبب الوضع المادي، فكل شخص لديه أسرة، وكل أسرة في اليمن تتراوح ما بين خمسة إلى عشرة أفراد في البيت الواحد، ونحن نستقبل الكثير من الشكاوى في إدارة المنازعات، أغلبها ما بين عمال وأرباب العمل في المطاعم والورش، وهذه جديدة علينا لم نكن نستقبلها حتى على مستوى حراس المنازل، الناس تستغني عن العمال بسبب إفلاس المحلات والمطاعم أو فقر الأسر".

- الاختلالات الأسرية

ثماني سنوات حرب شهدت خلالها حالات مؤلمة جراء البطالة، فهناك من لا يستطيع أن يعيل أسرته، أو يفي بالتزاماته، فيصاب بالإحباط، وقد ينهار نفسيا، وكثير من الحالات التي تصاب بالجنون، وقد شهدت الآونة الأخيرة كثيرا من هذه الحالات المؤلمة.

يقول الدكتور محمود البكاري -أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز-: "الحرب أدت إلى الكثير من المشاكل الاجتماعية، ومنها مشكلة البطالة التي توسعت في المجتمع بشكل مخيف، هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة أثرت على واقع الناس وحياتهم المعيشة، وانعدمت فرص العمل، خصوصا لعمال الأجر اليومي".

ويضيف: "أصحبت هذه الفئة لا تتحصل على العمل، الذي يمكنها من مواجهة أعباء الأسرة، ولا يستطيع أن يفي بالتزاماته الأسرية نحو أطفاله وأسرته، خصوصا في مجال التعليم والصحة كل ذلك أدى إلى زيادة أعباء التعليم، وهو ما ينتج عنه أحيانا اضطرابات أسرية، واختلال العلاقات الاجتماعية، مثل التفكك الأسري، والطلاق وتشرد الأطفال".

ويؤكد البكاري أن "هناك مشاكل اجتماعية أخرى مترتبة على هذه المشكلة، لكنها مشاكل من الدرجة الثانية، وتتمثل في العنف الأسري وجنوح الأحداث والتسرب من التعليم، وهي قضايا مرتبطة بموضوع البطالة الناتجة عن الحرب"..

- من عمال إلى مقاتلين

تمتد مأساة الحرب إلى عمليات التجنيد الإجبارية للعمال، ومنهم عمال النظافة والمزارعون، ومن فقدوا وظائفهم، أو المهمّشون الذين يذهبون إلى القتال مقابل اقتطاع القليل من المساعدات التي تقدمها المنظمات الإنسانية لأسر هذه الفئة،

حيث تقوم المليشيا بإخضاعهم لدورات قتالية وطائفية قبل أن تدفع بهم إلى جبهات القتال.

يقول الكثير من الأسرى إن سبب التحاقهم بصفوف مقاتلي الحوثي هو من أجل الحد الأدنى من الرواتب أو كيس قمح، وأحيانا تضغط جماعة الحوثي على الأسر من أجل الحصول على الإغاثة الأممية بإرسال عائلها إلى معسكرات التدريب للحصول على الحصص الغذائية من المنظمات.

- ختاما

العامل هو الشريحة القوية التي تصنع التاريخ الملموس وتشيّد الحضارات، وهو من يرفع من شأن المجتمع، ويعد القوة الأساسية والمصدر الرئيسي لبنائه، لكنه اليوم مُلقى في سلة المهملات ومستنقع خيبة الآمال..

مئات الآلاف عاطلون عن العمل يعيشون صنوفا من القسوة والعزلة والتعب ينتظرون انتهاء الحرب دون جدوى.

تقارير

الانفراجات الإقليمية واستعصاء الملف اليمني.. من المستفيد؟

شهدت مختلف أزمات المنطقة، خلال السنوات والشهور الأخيرة، سلسلة من التسويات والانفراجات التي أسهمت في تهدئة عدد من الصراعات الإقليمية الحادة، باستثناء الملف اليمني الذي ما يزال عالقا في مأزق صعب ومعقد، فالمبادرات والفرص تتعاقب دون أن تحقق اختراقا في جدار الأزمة اليمنية، وكلما طال أمد الصراع ازداد المشهد تعقيدا حتى بات عصيا ومن الصعب التنبؤ بمآلاته أو رسم مسار واضح لإنهائه.

تقارير

الحكم بالدم والإرهاب.. إلى متى تستمر جرائم ميليشيا الحوثي بحق المختطفين وأسرهم؟

تعتبر عمليات الاختطاف والتعذيب الممنهج التي تمارسها ميليشيا الحوثي بحق المدنيين، بما في ذلك الصحفيين والنشطاء والسياسيين، من أكثر الانتهاكات وحشية في الصراع اليمني، حيث تحتجزهم الميليشيا في سجون سرية يتعرضون فيها للتعذيب الجسدي والنفسي، إلى حد الوفاة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.