تقارير
ضغوط نزع سلاح المحور الإيراني.. هل تفجر حربا إقليمية جديدة؟
تتزايد الضغوط الدولية والإقليمية لنزع سلاح المليشيات الطائفية التابعة لإيران، بدءا بحزب الله اللبناني، ثم مليشيا الحشد الشعبي في العراق، وأخيرا مليشيا الحوثيين في اليمن، حيث كشفت مصادر مقربة من الحوثيين أن السعودية والولايات المتحدة الأمريكية تضغطان لتعديل خارطة الطريق التي كانت قد توصلت إليها الرياض ومليشيا الحوثيين بوساطة عمانية، وذلك بإضافة تعديلات تتضمن نزع سلاح الحوثيين.
لكن في المقابل ترفض مختلف المليشيات الطائفية مطالب نزع سلاحها، وفي مقدمتها حزب الله اللبناني، الذي تتزايد حدة الضغوط عليه لنزع سلاحه فيواجهها بالرفض والتهديد بإشعال حرب أهلية، وسط إصرار إسرائيلي وأمريكي على نزع سلاحه، كما منحت واشنطن الحكومة اللبنانية مهلة إلى نهاية نوفمبر الجاري لنزع سلاح الحزب.
وفي الوقت ذاته، تتوالى التحذيرات الدولية بتجدد الحرب الإسرائيلية على حزب الله، الذي تذكر تقارير غربية أنه يعيد تسليح نفسه، بينما رفعت إسرائيل في الآونة الأخيرة من وتيرة غاراتها على أهداف للحزب في البقاع والجنوب اللبناني، بالتزامن مع زيارات موفدين دوليين إلى لبنان.
- هل سيسلم الحوثيون أسلحتهم؟
لم تكن فكرة نزع سلاح مليشيا الحوثيين قد طُرحت من قبل في أي جولة من مساعي السلام في اليمن، ويعد طرحها حاليا تطورا لافتا في طريقة التعاطي الإقليمي والدولي مع مليشيا الحوثيين، التي كانت الأكثر تدليلا من بين وكلاء إيران في المنطقة من جانب المجتمع الدولي ومن دول الجوار، سواء من حيث وقف معركة الحسم ضدها، أو التغاضي عن تهريب السلاح لها من إيران ونمط حكمها المتوحش ضد المواطنين في مناطق سيطرتها وانتهاكاتها اليومية لحقوق الإنسان، أو عدم الوقوف بحزم ضد تهديداتها للملاحة الدولية في البحر الأحمر.
غير أن مطالب نزع السلاح تبدو غير واقعية على الأقل في الوقت الحالي، لأن الظروف الملائمة لذلك لم تنضج بعد. فعلى الرغم من تراجع المحور الإيراني على وقع الضربات الإسرائيلية التي أضعفت حزب الله وأودت بمعظم قياداته البارزة، وانهيار نظام بشار الأسد في سوريا، فإن بقية مكونات المحور الإيراني ما زالت تحتفظ بأسلحتها، أي مليشيا الحشد الشعبي في العراق ومليشيا الحوثيين في اليمن، بل حتى حزب الله اللبناني ما زال يمتلك كميات كبيرة من الأسلحة التي لم يتم تدميرها بعد.
تعتقد إسرائيل أن نزع سلاح المليشيات التابعة لإيران شرط أساسي لضمان أمنها، ويبدو أنها مصممة على تحقيق ذلك الهدف حتى وإن اقتضى الأمر اللجوء للعمل العسكري، خصوصا أن خصومها أصبحوا أضعف بكثير من أي وقت مضى، لا سيما حزب الله، الذي لم يعد بقدرته التصدي لأي عملية عسكرية جديدة ضده بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها قبل أكثر من عام، والتي بدأت بتفجيرات أجهزة البيجر، ثم اغتيال زعيمه حسن نصر الله وقيادات بارزة في الحزب، رغم أنه ما زال بحوزته ترسانة كبيرة من الأسلحة، لكنها لا تؤهله لمواجهة التفوق التكنولوجي والعسكري الإسرائيلي.
وفيما يتعلق بمليشيا الحوثيين، ورغم التهديدات الإسرائيلية بمعاقبتها، فإنها ما زالت في "وضع مريح" من بين بقية وكلاء إيران، أي أنها لم تتعرض لضغوط إقليمية ودولية كتلك التي يتعرض لها حزب الله اللبناني ومليشيا الحشد الشعبي في العراق، فالضغوط هناك تستهدف الحكومات القائمة لنزع سلاح تلك المليشيات، مما يضيق الخناق عليها داخليا وخارجيا، كما أن أصولها العسكرية مكشوفة ويمكن استهدافها من الجو دون الحاجة لمواجهات برية واسعة.
وهذا على العكس من مليشيا الحوثيين التي تخفي أسلحتها في مناطق جغرافية واسعة ومترامية وتضاريس معقدة، وتحتاج عملية تدميرها لمدة زمنية طويلة من التتبع والمراقبة أو عملية عسكرية برية واسعة، فضلا عن تعقيدات الوضع في اليمن المختلف عن العراق ولبنان، فهناك حكومات قائمة يمكن الضغط عليها بشأن حصرية السلاح بيد الدولة، بينما في اليمن تسيطر مليشيا الحوثيين على عدد من المحافظات ومساحة تتجاوز ثلث مساحة اليمن لا وجود لسلطة الدولة فيها، وبالتالي لا يمكن نزع سلاح المليشيا إلا باستعادة الدولة سيطرتها على جميع أراضي البلاد.
فضلا عن ذلك، ما زالت مليشيا الحوثيين الطرف الوحيد من بين وكلاء إيران الذي خرج من التصعيد الإقليمي بلا خسائر عسكرية تُذكر كما هو حال الوكلاء الآخرين، وستكون عملية نزع سلاحها مرهقة قياسا بما هو عليه حزب الله والحشد الشعبي، لأن نزع السلاح يعني بالنسبة للحوثيين تنازلا مؤلما وخسارة طوعية لجميع المكاسب التي راكموها منذ عام 2015 وحتى اليوم.
وبالتالي فإن المليشيا الحوثية سترفض تسليم السلاح، حتى وإن تم نزع سلاح مثيلاتها في لبنان والعراق، وستوافق على تسليم سلاحها في حالة واحدة فقط: إذا شُنت ضدها عملية عسكرية واسعة تؤدي إلى إضعافها وتشعر أنها على وشك الانهيار التام، حينها ستجنح للسلام وتوافق على تسليم السلاح، لتحافظ على ما أمكن من المكاسب التي ستمنحها إياها شروط التسوية، بدلا من خسارة كل شيء.
- ملفات متزامنة
تتزامن التطورات في لبنان والعراق واليمن لتشكل ملفا واحدا في اهتمامات الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يركز على تحجيم أذرع إيران في المنطقة من خلال نزع أسلحتها، وربما وصولا إلى شن عملية عسكرية جديدة تستهدف إيران ذاتها، ضمن ما يبدو أنه إعادة ضبط لموازين القوى في الإقليم بعد الهدنة في قطاع غزة.
وفي المقابل، تحاول طهران وأذرعها في المنطقة المناورة للحفاظ على النفوذ عبر مسارات سياسية، وسط ترقب الجميع بقلق احتمال انزلاق المنطقة إلى جولة صراع جديدة إذا فشلت الدبلوماسية والضغوط في تحقيق مطالب نزع السلاح، رغم أن مطالب حصرية السلاح بيد الحكومات تلقى تأييد مختلف شعوب المنطقة، كونها المتضرر الأول منها بشكل أو بآخر، لكن المخاوف تكمن في أن يتحول الأمر إلى حروب أهلية عنيفة جراء رفض المليشيات الطائفية تسليم أسلحتها للحكومات القائمة.
وبين جعل ملف نزع السلاح محل تفاوض في اليمن ولبنان والعراق، والتلويح بالخيار العسكري إذا لم تستجب أذرع إيران للضغوط، تبدو كل السيناريوهات قاتمة، فإذا حاولت الحكومات المحلية نزع أسلحة المليشيات بالقوة، فإن ذلك سيتسبب في اندلاع حروب أهلية، وإذا تأخرت الحكومات عن نزع تلك الأسلحة، أو بدت عاجزة عن تنفيذ تلك المهمة، فإن ذلك سيزيد من احتمالات عودة إسرائيل للحرب من جديد على تلك المليشيات بمساندة أمريكية مباشرة.
إن نزع سلاح المليشيات، أو وضعه تحت إشراف الحكومات الشرعية، يعني قطع أداة النفوذ التي تعتمد عليها طهران في استنزاف خصومها بالوكالة، من دون خوض حروب مباشرة. وفي الوقت نفسه، يشكل تطور البرنامج النووي الإيراني عنوانا كبيرا للقلق، فتقديرات بعض الخبراء تؤكد أن إيران لديها قدرة تقنية تقترب من إنتاج وقود السلاح النووي.
وبهذا الربط، يصبح سلاح المليشيات الطائفية جزءا من فلسفة الردع الإيرانية، فقدرة طهران على تصنيع سلاح نووي في وقت قصير لا يتجاوز أسبوعين عند الضرورة وفق مزاعمها، من شأنه أن يعيد فتح حسابات "المواجهة الكبرى"، وبالتالي فإن نزع السلاح يعد الخيار الوحيد لإجبار وكلاء إيران على الاستسلام لشروط التسوية قبل فرضها على طهران، وهذا الاستسلام إذا لم يتم بالطرق الدبلوماسية، فإنه سيتم بقوة السلاح.
من جانبها، تبدي إيران ممانعة إزاء مطالب نزع سلاح المليشيات الطائفية التابعة لها، وتعمل على إعادة تأهيلها من جديد، لأنها ترى فيها أداة حيوية لردع خصومها أو استنزافهم بعيدا عن أراضيها وفق إستراتيجية "الدفاع المتقدم"، وترى فيها أيضا ضمانا لنفوذها الإقليمي ولإظهار أن الصفقات معها ليست صفقات فارغة.
وبالتالي فإن أي تقليص لقوة وكلاء طهران (نزع السلاح) يعني انخفاضا في ورقة النفوذ وتحولا كبيرا في ميزان القوة. وبما أن تلك المليشيات تدين بالولاء المطلق لإيران وتتلقى التعليمات منها، فإن استمرار دعم طهران لها يمنحها مقعدا فاعلا في معادلات النفوذ، وهو ما لا ترغب إيران في التخلي عنه بسهولة.
- المحور الإيراني.. والمأزق الكبير
تعتقد طهران أن نزع سلاح المليشيات التابعة لها قد يشكل تحضيرا لضربة عسكرية جديدة ضدها أو لفرض اتفاق جديد يحد من قدراتها النووية، أو على الأقل إنهاء نفوذها الإقليمي، بينما تشعر المليشيات الطائفية أن نزع سلاحها يعني وفاة مشروعها تماما، وأن موافقتها على ذلك يعني انتحارا طوعيا، ولن تقوم لها قائمة بعد ذلك، ولذا ليس أمامها سوى مقاومة الضغوط وخوض معركة البقاء الأخيرة إن اقتضى الأمر.
أما إيران، فليس أمامها أي خيار سوى تسريع خطواتها النووية، وقد زعمت مؤخرا أنه بإمكانها إنتاج قنبلة نووية خلال أسبوعين في حال اضطرت لذلك، وقد يكون هذا التصريح مجرد حرب نفسية ضد أعدائها، وقد تجري تجربة نووية وهمية، أو ربما أنها قد امتلكت بالفعل ما يسمى بـ"السلاح النووي التكتيكي"، وهي قنابل نووية صغيرة منخفضة العائد وتستخدم بشكل محدود في ساحات المعارك.
ومع ذلك، قد يكون هدف إظهار هذه القدرات تضليليا لإيهام الخصوم بأنها تمتلك قنابل نووية إستراتيجية، أي ذات قوة تدميرية هائلة مخصصة لأهداف كبيرة مثل المدن أو المواقع العسكرية الكبرى، لكن هل ستسمح واشنطن وتل أبيب لإيران بالاستمرار في تسريع برنامجها النووي حتى اكتماله؟
تدرك الولايات المتحدة وإسرائيل أن إيران ماضية في برنامجها النووي، وأنها تراوغ وتستهلك الوقت، وأن مليشياتها لن تسلم أسلحتها طوعا، والآن الضغوط موجهة في أكثر من ساحة، والمواعيد النهائية لنزع السلاح، كما في لبنان، تزيد من عوامل التوتر، لأن نزع السلاح يعني تفكيك هيكل نفوذ إقليمي بني خلال عقود، وبالتالي فإن رد الفعل سيكون أكبر من مجرد رفض محلي، مما يزيد من احتمال توسع المواجهة، ويجعل التحكم في التصعيد صعبا.
لا شك أن المرحلة الراهنة تشكل مأزقا كبيرا للمحور الإيراني، الذي سيضطر لخوض معركة البقاء الأخيرة، بعد تضييق الخيارات الأخرى أمامه، خصوصا بعد تحذير واشنطن الأخير للحكومة العراقية من أي تدخل للفصائل العراقية الموالية لإيران في العمليات العسكرية المرتقبة بالمنطقة، خلال اتصال هاتفي، في مطلع نوفمبر الجاري، تلقاه وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي من نظيره الأمريكي بيت هيغسيث، الذي أنهى الاتصال بعبارة تحذيرية قائلا: "هذا تبليغ أخير لكم، وتعرفون جيدا كيف سيكون رد الإدارة الحالية".