منوعات

القمريات في اليمن.. أكثر من مجرد نافذة لجلب الضوء

08/05/2025, 07:00:56
المصدر : قناة بلقيس - خاص

في قلب البيوت اليمنية القديمة، وقبل أن تغزو الخرسانة أرواح المعمار، كانت “القمرية” تتربع كأيقونة ضوئية على جدران الطين، تنثر ألوانها الناعمة في زوايا المكان، وتمنح للنهارات طقوسًا ضوئية لا تُنسى. 

وعرفت  القمريات في اليمن بأنها  ليست مجرد نافذة زجاجية تُزيّن الجدار، بل هي إرث معماري وفني وجمالي عميق، يعكس ذوق اليمني ورؤيته للحياة والجمال.

وتبدو القمريات بشكل نصف دائري مصنوع من الزجاج الملون ومثبتة داخل أقواس خشبية، وقد سُميت بهذا الاسم لأنها تُشبه البدر في تمامه، وتسمح لضوء الشمس بالتسلل إلى الداخل في هيئة قوس مضيء ناعم يشبه ضوء القمر، فيخلق حالة شاعرية دافئة داخل البيوت، خصوصًا مع تناثر الألوان على الجدران والأرضيات.

 وتُبنى عادة فوق النوافذ أو الأبواب المستطيلة في العمارة اليمنية، خصوصًا في مدينتي صنعاء القديمة وزبيد التاريخية. تُصنع غالبًا من الجص الأبيض (الجبس)، وتُطعَّم بزجاج ملوّن، يتخذ أشكالًا هندسية أو نباتية، تمنح الضوء الداخل للبيت ألوانًا بهية تتراقص على الجدران، وتشكل لوحات من السكينة والجمال.

وتعود تسمية “القمريات” إلى اشتقاقها من كلمة “قمر”، حيث أن شكلها المقوس يذكّر بنصف البدر، كما أن انعكاس الضوء عبرها يُضفي على المكان لمسة قمرية حالمة، لا سيما في أوقات الفجر والغروب.

ويُعتقد أن استخدام القمريات يعود إلى القرن العاشر الميلادي، حين تطورت العمارة الإسلامية في اليمن وتداخلت مع التأثيرات الفارسية والعثمانية. لكنها في السياق اليمني اتخذت طابعًا خاصًا، جعل منها جزءًا لا يتجزأ من الهوية المعمارية للبيت اليمني.

في صنعاء القديمة، تصطف آلاف المنازل الطينية، وكل منزل منها يحمل فوق نوافذه قمريات فريدة، تُزيّن الواجهة وتُعطي لكل بيت ملامحه الخاصة. القمرية ليست مجرد ديكور، بل وثيقة معمارية تُجسّد الذوق الرفيع، والإبداع الشعبي، والقدرة على استثمار الطبيعة في خدمة الإنسان.

فن صناعة القمريات

صناعة القمريات مهنة تقليدية تُورَّث أبًا عن جد، وتتطلب دقة ومهارة وخبرة طويلة. تبدأ العملية بتصميم الإطار الجبسي المنحني، حيث يُصب الجص على قالب خشبي منحني ويُترك حتى يتماسك. بعد ذلك، يُفرَّغ الجبس لتشكيل الفراغات التي سيوضع فيها الزجاج الملوّن. يُثبَّت الزجاج باستخدام الرصاص أو المواد اللاصقة الحديثة، ثم تُركّب القمرية في مكانها النهائي أعلى النافذة.

ألوان الزجاج المستخدمة تتنوع بين الأزرق، والأخضر، والأحمر، والأصفر، ولكل لون دلالة رمزية، كما أن التشكيلات الهندسية تعكس روح التوازن والجمال في العمارة اليمنية. البعض يستخدم الزجاج المستورد، بينما يفضل آخرون الزجاج البلدي الذي يُصنع في اليمن بطريقة تقليدية.

القمريات لا تُستخدم فقط لتجميل الواجهات، بل لها وظيفة بيئية ذكية، إذ تسمح بدخول الضوء الطبيعي إلى الداخل دون حرارة مفرطة، بفضل الزجاج الملوّن الذي يفلتر الأشعة. كما أنها توفر الخصوصية لسكان البيت، فلا يرى الداخل من الخارج، وتساعد على تهوية الغرف العليا دون أن تتسبب في تيارات هوائية مزعجة.

وفي ليالي رمضان، يتحوّل الضوء الذي ينساب من القمريات إلى ما يشبه مدًّا ضوئيًا روحانيًا، يجعل المكان أشبه بمحراب صوفي ينبض بالسكينة.

رغم كل هذا الجمال، تواجه القمريات اليوم خطر الاندثار في ظل الطابع العصري الذي يغزو المدن اليمنية، ومع هجرة سكان المدن القديمة إلى الأبنية الخرسانية الحديثة التي لا تعرف للقمرية بابًا ولا نوافذ.

لكن بعض المهندسين والفنانين المعماريين الشباب بدأوا مؤخرًا في إعادة الاعتبار لهذا الفن، عبر مشاريع ترميم البيوت القديمة في صنعاء القديمة، وإحياء مهنة صناعة القمريات، بل وتوظيفها في تصاميم داخلية معاصرة كعنصر تراثي يعيد الروح للأماكن.

القمريات دخلت في الأغاني، والقصائد، والحكايات الشعبية اليمنية، باعتبارها رمزا للبيت الدافئ، وذاكرة الطفولة، وصوت الجدات. كثير من الأغاني التراثية تشير إلى القمرية باعتبارها نافذة اللقاءات الأولى، والرسائل الخفية، ومرآة للوجوه المشتاقة.

ويقال في مأثورات اليمن إن “البيت بلا قمرية كالنخلة بلا تمر”، في دلالة على ما تمثّله هذه النوافذ من بُعد روحي ووجداني لا يكتمل جمال البيت إلا بها.

تحديات البقاء وأمل التجدد

اليوم، يتعرض هذا الفن لخطر النسيان مع تضاؤل عدد الحرفيين، وغياب الدعم المؤسساتي، وتزايد الكلفة المالية.

لكن جهودًا فردية ومجتمعية تتصدى لهذه الموجة، عبر مبادرات ترميم القمريات، ومعارض الفن المعماري، وورشات العمل التي تُدرّب حرفيون جدد على إعادة إنتاج هذا الجمال.

كما بدأت بعض الفنادق والمطاعم السياحية في صنعاء وعدن وتعز بإدخال القمريات في تصاميمها، كوسيلة للترويج للهوية اليمنية، واستعادة العلاقة الحميمية بين المكان والإنسان.

ويذهب البعض للقول بان القمريات ليست مجرد نوافذ، بل هي جسور تربط اليمنيين بجذورهم. إنها عيون البيوت التي لا تنام، ورموز الجمال الصامت في مدن تصرخ بالتاريخ. في زمن الخرسانة والزجاج، تظل القمرية تهمس بأن اليمن بلد لا يعرف أن يعيش بلا لون، ولا يضيء بلا فن.

منوعات

"نقض المفهوم الجغرافي للزيدية في اليمن".. كتاب جديد للباحث محمد العلائي

صدر حديثاً عن دار جداول في بيروت كتاب “حدود مصنوعة – نقض المفهوم الجغرافي للزيدية في اليمن” للكاتب والباحث محمد العلائي، وهو عمل فكري تاريخي نقدي يسعى إلى مراجعة إحدى أبرز المسلمات الخطيرة في الوعي اليمني المعاصر، والمتمثلة في الربط بين الزيدية، والمنطقة العليا من اليمن، حيث تقع عاصمة الدولة اليمنية الموحّدة، كما لو أن هذا الارتباط حتمية لا يطالها التغيّر ولا تقبل المراجعة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.