مقالات
أبو الروتي - الحلقة 20
بعد أن طلّقها السيّد عبداللطيف الصوفي، تزوّجت رقية علي ثابت برجل اسمه طاهر بدر. وكان طاهر بدر يملك مطعمًا في عدن، بسوق الطويل، وبيتًا في حي "الخُسَاف" أمام نادي الحسيني ومطعم البحر الأحمر قريبًا من بيت جدّي علي إسماعيل.
وكانت رقية تأتي كل جمعة إلى بيت أخيها محمد علي ثابت في الشيخ عثمان بصحبة ابنةٍ لها بنفس عمري؛ اسمها: رشيدة.
وكانت رشيدة طاهر بدر أخت شريفة عبد اللطيف الصوفي من الأم، لكنها كانت جميلة، وحبُّوبة، وذات حضورٍ مدهشٍ.
وفي بيت صهري محمد، كان هناك شغالة اسمها: حورية،
وكانت حورية ابنة شيخ من مشايخ المحويت، أراد أبوها أن يزوِّجها بشيخ قبيلة عجوز تعدّى عمره الستين، فيما كانت هي قد وقعت في حب شاب بعمرها، لكنها وقد رفضت الشيخ العجوز الذي تقدّم لها أقسم أبوها بأنها سوف تتزوجه غصبًا عنها، كان ذلك في نهاية الأربعينات، من القرن العشرين.
وخوفًا من أن يفعلها أبوها، ويزوِّجها بشيخ القبيلة العجوز، قررت الهروب إلى عدن، وفي تلك الأيام، التي كان فيها يهود اليمن يغادرون قراهم ومناطقهم ويهاجرون إلى فلسطين عن طريق عدن، تمكنت حورية من الهروب مع أسرة يهودية.
وبعد وصولها مدينة عدن، اشتغلت في البيوت، وكانت فتاة جريئة، تحب المرح، واللهو والضحك، وفي رأسها قصص وحكايات جميلة؛ جمال بلادها المحويت، وكثيرًا ما كانت في الأمسيات تسترجع ذكرياتها تلك، وتظل تحكي، وخصوصًا في الليل حين تنتهي من عمل البيت، وكنت أصغي إلى حكاياتها باهتمام بالغ، وبشغف زائد.
وحين كنت أقارن بين ما أسمعه منها وما سمعته من المدرِّسين في المعهد العلمي الإسلامي، أو في كلية "بلقيس" أجد فَرقًا كبيرًا بين ما تقوله وبين ما يقولونه لنا.
كان كلامهم باردًا برودة الكلمات المكتوبة، وبرودة الكُتب، وبرودة الورق، فيما كان كلامها ساخنًا سخونة أرغفة الرُّوتي لحظة خروجها من الفرن.
كانت أول امرأة أسمعها تتكلَّم في الحُب، وعن الحُب، وعندما كانت تتكلَّم عن حُبها في المحويت كان عقلي يشرد وتعود بي الذاكرة إلى الوراء، وأتذكر البنت التي أحببتها في مسقط رأسي (نجد الغليبة)، والبنت شمس (شمس الوادي)، تلك التي وقعْت في حُبها في أول رحلة لي بالحِمار إلى منطقة "الراهدة".
ولم تكن حورية تتحدّث فقط عن حُبها الخاص، وعن حبيبها المحويتي، وإنما كانت تتكلم عن الحُب باعتباره شيئًا لا غناء عنه. وذات يوم وقد رأتني أحملق في وجه البنت رشيدة قالت -لي بعد أن غادرت رشيدة:
"أنت -يا عبد الكريم- تحب رشيدة؟"، قالت لي ذلك وهي تبتسم.
لكنِّي، وقد تفاجأتُ بكلامها، استحيتُ وخجلتُ، وأنكرتُ أنني أحبها، وقلت لها بصوت حاد النبرة:
"لا.. ما أحبهاش".
وبعد أن أنكرتُ، قالت لي إنّ الحب شيء رائع ينزل من السماء مثلما ينزل المطر، وليس عيبًا، ولا يجب أن ننكر مشاعرنا أو نخجل منها!!
وقالت إنّها حين وقعت في الحب كانت تشعر لكأنَّ أجنحة نبتت لها، وأن بمقدورها أن تطير وتحلِّق بعيدًا؛ من الفرح.
وأنه - أي الحُب - جعلها قويّة، وصار بمقدورها أن تواجه أباها وترفض الشيخ العجوز، الذي تقدَّم لها، وتُصر على موقفها.
ثم إنّها بقوة حُبها تجرّأت وقررت الهروب إلى عدن، وقالت كلامًا مضحكًا، لكنِّي لم أفهمه يومها، وهو "لو أن اليهود لم يتوقفوا، ومضوا مباشرة إلى إسرائيل لما ترددت في الذهاب معهم".
ولشدة إعجابي بقصة حُبها، وبكلامها عن الحُب، وبجُرأتها، تجرّأت، واعترفتُ أمامها بالبنات اللاتي أحببتهن. لكنّ حورية، وقد استمعت لقصص حُبي، قالت لي إنّ الحُب الذي عرفته أصبح من الماضي، وأن الحُب الحقيقي هو الحُب الذي نعيشه، وليس الذي نتذكّره، فطلبت منِّي أن أكتب رسالة حُب للبنت رشيدة، ووعدتني بأنها ستقوم بتوصيلها.
وكان أن راحت تُلح، وأنا أرفض وأنكر أنني واقع في حُبهاد وأواصل الإنكار، لكن حورية المحويتية لم تصدّقني، وقالت لي:
"الحُب -يا عبد الكريم- يظهر بالعيون، وعيونك ما يكذبين".
وأمام إصرار حورية، خلَوْت إلى نفسي، وأخذت ورقة وقلمًا، وكتبت أول رسالة حُب في حياتي. ولم أعد أذكر ما هو الكلام الذي قُلته لها.. لكن الذي أذكره هو أنني في اليوم الذي سلمتْ حورية لها رسالتي بقيتُ متوترًا ومتوجِّسًا، وجفاني النوم ليلتها، وفي صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى كلية "بلقيس"، وأنا في حالة أرقٍ وقلقٍ وخوف، ولمدة أسبوع بقيت أنتظر ردها على قلق.
وفي اليوم الذي سلَّمتني حورية ردها، رحتُ أرتعشُ وأرتجفٰ من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، ولشدة ما كنت قلقًا ومتوترًا دخلت الحمام وقرأتُ رسالتها وبعد أن انتهيت خرجت من الحمام وأنا شبه محموم، وحرارة جسدي مرتفعة؛ والسبب أن رشيدة راحت تلومني، وتقول إنني قليل أدب، وأنها سوف تشكوني إلى خالتها "بُنُود".
طبعاً أنا خِفت، وأخبرت حُورية بما قالته، لكن حُورية، التي كانت قد دخلت بحر الحُب وغرقت فيه، قالت لي إنه دلع البنات، وأنها تكذب، ولن تشكوني، وطلبت منِّي أن أكتب لها رسالة ثانية، وكتبتُ رسالة ثانية، وعندما وصلني الرَّد دخلت الحمام وأنا قلق ومتوتر، وريقي ناشف.
وبعد أن قرأت ردها، ازددتُ يأسًا، وفقدت الأمل.
وبعد ذلك طلبت منِّي حُورية أن أكتب لها رسالة ثالثة، لكنِّي رفضت.
وصادف ذات مرة، ورشيدة موجودة، قلتُ للشغالة حُورية إنني من شدة الحَر نِمت عريان، لكنِّي قلتها بلهجة القرية:
"أمس -يا حُورية- من الحَمَى رقدت عُرْطُوْطْ".
وحين سمعتني رشيدة انفجرت تضحك، وتردد الكلمة التي أضحكتها: "عُرْطُوْط، عُرْطُوط".
وكان أن أوجعني ضحكها من كلامي، وزعلتُ منها، وبقيتُ زعلانا أشيح بوجهي عنها كلما أقبلت. وفي إحدى المرات، وقد حضرت مع أمها رُقَيّة، طلبت منِّي حُورية أن أحكي لهنَّ عن السينما، وعن الفيلم الذي دخلته (صراع في الوادي)؛
ولا أدري ما الذي جعل حُورية تطلب منِّي ذلك؟!! مع أنِّي كنت قد حكيت لها حكاية الفيلم!!
ولأنني زعلان من رشيدة، فقد رفضت أحكي. وبعد أن رفضت وأصررت راحت حورية تكلم رشيدة، وتقول لها:
"عبد الكريم دخل السينما وشاف فيلم مليح".
لكن رشيدة، التي كانت قد كرهتني بعد رسائل الحُب، بدت مستغربة وغير مصدقة بأن هذا القروي القادم من القرية قد دخل السينما، وبعد أن أكدت لها حُورية أنني دخلت؛ راحت تختبرني وتسألني عن اسم السينما التي دخلتها، وقالت لي:
"أيش اسم السينما؟".
قلتُ لها: "سينما هريكن".
وصادف أن كانت سينما "هريكن" على بُعد بضعة أمتار من بيت أبيها طاهر بدر. ثم، وقد ذكرت لها اسم السينما التي تمر كل يوم من جنبها، طلبت مني أن أحكي لها قصة الفيلم، لكني يومها، وبالرغم من زعلي منها، رضخت وحكيت لها وللشغالة حورية قصة الفيلم، ورحت أسرد الأحداث، وأتكلم عن الحُب الذي نشأ بين أحمد (عمر الشريف) وأمل بنت الباشا (فاتن حمامة)، وكنت -لشدة إعجابي بهذا الفيلم- قد حفظته عن ظهر قلب، حتى إن رشيدة، حين رأتني أسرد الأحداث بطريقة تفوق قدرتها على المتابعة، راحت تستوقفني وتسألني عن بعض التفاصيل، وكنت أجيب على أسئلتها، واجتهد في الإجابة عن الأسئلة الصعبة.
ويومها فقط عرفت البنت رشيدة أنني أدرس في كلية "بلقيس" صف خامس ابتدائي، وكان في ظنها أنني اشتغل خبازًا عند خاليها محمد وعبدالوهاب، وليس لي بالدراسة.
لكنها، وقد عرفت أنني طالب وخباز في الوقت نفسه، توقفت عن النظر إليَّ بتلك النظرة المتعالية.
وفي يوم جمعة، وقد ذهبت الأسرتان معا إلى "بستان الكَمَسْري"، اقتربت منٍِي وقالت لي إنَّ حورية قالت لها إنّي زعلان منها بسبب ضحكها من كلمة "عُرطُوطْ"، وراحت تعتذر وتقول لي إن كلمة "عُرْطُوْط" أضحكتها، وأنها كثيرًا ما تضحك من كلمات تسمعها من أمها.
وكان هناك بائع آيسكريم يقترب منا، وأرادت رشيدة أن تصالحني، وتعزمني على آيسكريم. ولحظتها تذكَّرت قول "شُبَاطَة" إن المايعين فقط يأكلون الآيسكريم. لكن رشيدة، وقبل أن أعلن رفضي، كانت قد اشترت اثنين آيسكريم "أبو عودي"، ودفعت ثمنهما، وناولتني واحدًا، وكان عبارة عن عُود في رأسه كرة حمراء ملتهبة.
وبعد أن ناولتني، بقيت أنتظر كيف ستتعامل معه، فقد كُنت أجهل الطريقة التي يتناولون بها الآيسكريم، وحين رأيتها تولج الكرة الحمراء في فمها، وتلعقها بلسانها، رحتُ أقلِّدها، وأفعل مثلها، وشعرت لحظتها بلذة لاسابق لها، وبدا لي الآيسكريم يومها بأنه الذُّ شيء موجود في مدينة "عدن".
بعدئذٍ، وقد انتهينا من لعق الآيسكريم، غمرنا شعور بالفرح، ورحنا نجري ونركض في بستان الكَمسري، ثم ما لبثنا أن جلسنا نرتاح في ظل شجرة ضخمة، بعيدًا عن عيون الفَضُوْلِيْن.
ولأنِّي خجول بطبعي، جلست صامتًا، لكن رشيدة، وقد ضاقت بصمتي، طلبت منِّي أن أتكلم. وحين قلت لها إنه ليس عندي ما أقوله، طلبت منِّي أن أعيد عليها سرد قصة الفيلم "صراع في الوادي".