عبد الكريم الرازحي
كاتب وأديب وناقد ساخر يمني
كاتب وأديب وناقد ساخر يمني
بعد أن وصلتني رسالة جدتي الغاضبة، التي تطلب مني فيها أن أخرج من المعهد العلمي الإسلامي وأدخل مدرسة النصارى، بقيت حائراً لا أدري كيف أتصرف!! ولا ماذا أفعل!!
في الأيام، التي تلت مغامرة دخولي السينما، كنت كلما التقيت بأبناء قريتي، الذين سبقوني في النزول إلى عدن، وسبقوني بالدراسة، يستوقفوني، ويسألوني عن السينما، ويقولون لي: صحيح -يا عبد الكريم- دخلت السينما، والا يكذبوا؟!".
بعد خروجي من السينما، شعرتٰ بأني خرجتُ من جلدي، وولدتُ من جديد، ولم أعد ذلك الطفل الذي وصل من القرية، لكني كنت خائفا من ردود فعل الأهل فيما لو عرفوا بأني كنت في السينما....!!
(كنت كلما سمعت خطيب الجامع يتكلم عن بنات الحور تذكرتُ فاتن حمامة) عندما وصلت بيت جدي، علي إسماعيل، لم يكن جدي موجودا، وإنما كانت هناك جدتي آمنة، وقد استقبلتني بحرارة، وكانت ظريفة وخفيفة دم، حتى إنني أحببتها من طريقة استقبالها لي، ومن طريقتها في الحديث.
(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:
في طريقنا إلى بيت جدي علي إسماعيل، كنت أمشي وأتلفَّت وأحملق في وجوه المارّة، وأكثر ما كان يلفت انتباهي النساء والصبايا، وكان شُبَاطَة قد لاحظ ذلك، وقال لي:
مثلما كان البَوْل يسيل منّي لا إرادياً، كان المُخَاط هو الآخر يسيل من أنفي لا إراديا مع الفارق، وهو أن البَوْل يسيل في الليل أثناء النوم، فيما المُخَاط يسيلُ في النهار وأنا يقظ؛ لكنه كان يسيل بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ لكأنّ أنفي جُرح ينزف، وكان الذين يَعبُرون من أمام بيتنا -حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي- يصرخون بي: "اتْمخَّط ياب".
كان أهالي قريتنا،الذين سبقونا إلى المدينة (عدن)، لشدة خوفهم علينا نحن الأطفال الذين وصلنا للتو من القرية يحذروننا من ثلاثة أشياء، جميعها تبدأ بحرف السين:
ذات يوم، في شهر رمضان، وفيما كانت دَلا دَلا راجعة إلى المحوى، وقت أذان المغرب، توقفت سيارة قريبا منها، وسمعت السائق يناديها، ويقول لها: "اطلعي يا دَلا دَلا نوصلك للمحوى".
وهما في طريقهما للمحوى، قال لها منصور الصوفي: "أنا خايف يا دَلا دَلا". وحين سألته دَلا دَلا عمّا يخيفه؟
كان في الحديدة عدة سينمات، لكن السينما الوحيدة التي كان منصور الصوفي يرتادها أكثر من غيرها هي سينما 26 سبتمبر، والسبب أنها كانت سينما نظيفة وراقية، وفي حي راقٍ. فضلًا عن أنها كانت تقدم أفلامًا جديدة.
ذات يوم من أيام شهر أغسطس 1968، وفي اليوم نفسه، الذي استلم فيه منصور الصوفي أول راتب له من البنك اليمني - فرع الحديدة، مر في المساء على مكتبة "الثقافة" في "باب مُشرف"، واشترى مجموعة كُتب، وبعد خروجه من المكتبة ذهب إلى مطعم الحاج عبد السلام في شارع صنعاء.
في صباح اليوم التالي، استيقظت قرية العكابر على خبر موت الطفل فُرَيْس، فكان أن شاع الرّعب وضج الناس، وامتلأت صدورهم بالغضب.
عندما عرَف أهل القرية من سُفَرجَلة أن عساكر الدولة لاذوا بالفرار، داخلهم شعور بالخوف من الرجل المَيِّت، وأولئك الذين كانوا غير مصدقين بأن سلطان المِلْح عاد من البحر ميِّتا صدقوا بعد هروب العسكر، وقالوا:
في عصر اليوم التالي، وقد خرجت غصون لجلب الماء من النّبع اعترضتها خالتها قَبُول، وقالت لها: كيف تقدري -يا غصون- تعيشي مع سلطان المَلح وهو ميِّت؟!!".
خرجت الصباح والدّنيا مطر، وقبل خروجي كان الشيطان يوسوسُ لي، ويخوَّفني، ويُغريني بالنوم، ويقول لي:
عندما أخبروا القاضي شاهر بعودة سلطان المِلْحْ، لم يصدقهم، وقال لهم مقولته الشهيرة:
استيقظ الرَّجل الميِّت من نومه وقت غروب الشمس، ووجد زوجته غُصُون تجلس قبالته وهي حزينة وعابسة، وفي حالة انقباض، وحتى يُدخل الفرح إلى قلبها مسكها من يدها، وراح يقتادها إلى غرفة المفرش؛ ليريها الكنز الذي أحضره لها.
كان خبر عودة الرَّجل الميِّت قد أثار عاصفةً من الرعب، حتى إن القرية من حين عودته عاشت حياة أشبه ما تكون بالكابوس.
كان العاقل بجاش شديد الإعجاب بها وبعصيدتها، وعندما كان يأتيه عسكر من الحكومة، أو يأتيه ضيوفٌ يشعر بأن من واجبه أن يكرمهم، ويقدّم لهم عصيدة من عملها، وكثيرا ما كان ينادي ابنه حكيم، ويقول له كلما وصله عسكر أو ضيوف:
كانت حَمَام ناشر أشهر عصَّادة في القرية، وكان الناس يتحدّثون عن عصيدتها ويمدحونها:
كان الطُّلِّيس يغادر بيته كل يوم في الصباح، ويقضي يومه في التنقّل من قرية إلى أخرى بحثاً عن ديونه، وعند عودته في المساء، من قرى الناحية ومن القرى النائية، يعود مرهقاً ومتعباً وجائعاً.
بعد خروج الطُّلِّيس من الحبس، انفجرت "الحرب العالمية الثانية"، وتم إغلاق البحر، وتوقفت الصادرات، ولم تعد الأموال والسلع والبضائع تتدفق وتنتقل بالسهولة نفسها التي كانت تنتقل بها من قبل.
مثلما كان الناس في السابق يتحدثون بانبهار عن دكان الطُّلِّيس صاروا يتحدثون بالانبهار نفسه، ولكن هذه المرة عن موزة زوجة الطُّلِّيس، وكانوا يقولون:
بعد غياب دام عشر سنوات، عاد سيف الطُلِّيس من الحبشة وفتح دكانا في حيفان، ولم يكن كبقية دكاكين القرى والأسواق، وإنما كان دكانا واسعا ببابين، وكانت البضاعة والسلع المعروضة فيه مرصوصة بطريقة جذابة تلفت الانتباه، وتفتح شهية الناس للشراء، وكان الذي ما يشتري يتفرج، لكن أولئك الذين يذهبون إلى حيفان، ويمرون على دكان سيف الطُلِّيس، كانوا يعودون وهم في غاية الذهول مما شاهدوه، ولم يكن لهم من حديث غير الحديث عن دكان الطُلِّيس، وكانوا يقولون:
قبل عيد الأضحى بيوم، أو ربما بيومين، وفيما كانت تُمُور عبد اللطيف تغطُّ في النوم، استيقظت من نومها، منتصف الليل، على صوت طرقاتٍ على الباب، ومن غرفة نومها خرجت إلى الديوان، وفتحت النافذة، وأطلت برأسها، وراحت تسال:
كان عبده صالح يرد على من كل من يسأله عن سبب عودته من الموت بأنه لم يمت، وإنما داخ ودوَّخ، ودخل في غيبوبة، وغاب عن وعيه، وأنهم استعجلوا في قبره، وقبروه قبل أن تحين ساعة موته
في العصر الذّهبي للحَمير، كان الحمَّارة نجوم القُرى ونجوم الغناء، وكانوا عند مرورهم بالقُرى، أو عند اقترابهم من الينابيع والآبار، حيث تتجمع النساء والصبايا، يغنون ليلفتوا انتباههن
كان من سُوء حظ البنت سعيدة أنها وُلدت عمياء؛ كانت العمياء الوحيدة في القرية، لكنها وهي طفلة لم تكن تكترث بعماها، فقد كانت لديها مواهب تعوّضها عن فقدان بصرها، وكانت ذكية وتتمتع بذاكرة قوية، وكانت بقية حواسها حادة وشديدة الحساسية؛ تسمع أصواتا لا يسمعها غيرها من الأطفال، وتشم روائح لا يشمونها، وتحفظ أغانيَ وحكاياتٍ لا يحفظونها، وكان لها صوتٌ حُلوٌ وعذب يُلفِتُ الانتباه إليها.
لشدّة ما كان الفقيه مقتنعاً بنجاح خطته وصوابها من الناحية الشرعية، هجم على الفاتش لينتزع منه مِزمَارَه، ولِيزيلَ المنكر بيدِه عملا بالحديث الشريف؛ لكن الزمَّار سعيد الفاتش -رغم مرضه- كان مازال قوياً، وكانت يداه مازالتا قادرتين على الضرب والبطش، ثم إنه كان منتبهاً ومتوقّعاً وجاهزاً للرد، وبمجرد أن اندفع الفقيه لينتزع المِزْمَار منه سَلّ مِزْمَارَه المعمول من خشب صلب، وضرب به الفقيه ضربةً في يده، التي امتدت لأخذ مِزمَارِه، لكن تلك الضربة لم تشفَ غليله من الفقيه، الذي ألحق به الكثير من الأذى. ولشدة ما كان موتوراً منه، ضربه ضربةً قويةً في رأسه جعلت الدَّم ينبجس غزيراً، ولحظتها صَرخ الفقيه صرخةً أفزعت وكيل الشريعة حمود السلتوم، والحاج علوان، حتى أنهما بدلا من أن يهجما على الزَمَّار -بحسب الخطة - لاذا بالفرار.
كان سعيد الفاتش زمَّاراً ومغنياً وقارع طبل، وراقصاً موهوباً، وحكاءً وإنساناً جميلاً، وكان مدرسةً في الحب يحب الناس ويحب الحياة ويعيشها بشغف، ويجعل كل يوم من أيامه عيداً ومهرجان فرح
"عند وصولنا جرف النمر كانت بطارية جسدي قد انطفأت بالطريقة نفسها التي تنطفئ بها بطارية الهاتف، وكان الرجل الطيب صاحب العصا ينتظرني عند مدخل الجرف ليأخذ عصاه.."
كانت رحلتنا، الخميس قبل الماضي، رحلة شاقة وصعبة، وبالنسبة لي فقد كانت كابوسا أعظم من كل الكوابيس
حال وصولهما بيت الحكومة كان البيت يعج بالمتخاصمين من جميع القرى، وعند دخولهما راح الكل يلتفت ناحية البنت قَرطَلة، ويحملق في بطنها المنتفخة، وكان أن لفتت بطنها الشديدة الانتفاخ انتباه حاكم حيفان، القاضي غالب التنكة، الذي توقف عن الحكم بين اثنين من المتخاصمين
كانت قَرْطَلَةْ في الرابع عشرة من عمرها، وكانت جميلة، وبحسب تعبير نساء القرية: "دمّها حالي"، لكن امها أُلُوْف لم تكن تتركها في حالها.. طوال اليوم وهي تناديها وتطلب منها أن تنجز هذه المهمة أو تلك، ولا تتركها ترتاح، وكأنه ليس من حقها أن تأخذ قسطا من الراحة.
بعد عودة أمه زبيبة من النبع، وبعد أن أخبرتها نساء القرية بأن ابنها مفتاح ذهب إلى "المِحْدَادَة"، وقت المغرب، جُنّ جُنونها، وازدادت جنوناً بعد أن عرفت أنه ذهب من دون فانوس، ومن دون أن يحشو أذنيه بالعُطْب.
"ذات صباح مشمس، أفاق أهالي "قرية العكابر" على صخرةٍ عظيمةٍ وغريبةٍ تجثم قبالة بيت هزاع البتُول، وبدوا مستغربين ومندهشين من ضخامتها، وراحوا يتساءلون عمن جاء بها إلى قريتهم".
بعد أن التحق ب"فريق المشي المشي وتسلق الجبال" يقنا..، قال لي في ثالث رحلة: - "كيمو.. من حين التحقت بالفريق، وخرجتُ أمشي معكم.. مدري ما حدث لي!!
عندما سألت شُجُوْنْ ناشر الدرويش عبد الحق عن السبب في أن الفقهاء يحرِّمون الغناء؟، قال لها الدرويش إن الفقهاء يحسدون المغنيين على أصواتهم الجميلة
في "سنة الجُدَري"، شاع الخبر في "قرية العكابر" بأن شُجُوْن ناشر كفرت بربّها، ودخل الشك إلى قلبها، وتوقفت عن الصلاة، وبدلاً من أن تصلي صارت تغنِّي، وأصبح الغناء صلاتها.
كان الوقتُ عصراً، حين انتهى أعضاء فريق المشي وتسلّق الجبال من تناول طعام الغداء في مخيمهم، الذي أقاموه عند منابع المياه الدافئة في "عيون سردد" بمحافظة المحويت.
بعد عودتها من الجبل بالغنم، أخبرت الراعية أهل قريتها بأنها أبصرت حمارا ميتا في "الهيجة"، جوار الغيل، وفوقه كنز.
ولدت وكبرتْ وتبرعمت وتفتحت مثلما تتفتح زهرة في الربيع، وراح أريجها يعبق، وصدرها يتكوَّر، وصوتها يرق ويزداد جمالاً وحلاوةً وعذوبة.
كانت المُسَفِّلَةُ غُيُوْمْ عَالم تدرك بأن عليها لكيما تضمن حرية التنقّل بين العالمين وتمارس مهنتها كمُسَفّلة أن تحتفظ بعذريتها فلا تتزوّج ولا تدع أحدا يقترب منها باسم الزواج، أو باسم الحب، ولأنها جميلة كان هناك من يحوم حولها ظنا منه بأنها، وإن كانت ترفض الزواج، لن ترفض الحب، وكان أولئك الذين خابت آمالهم في الزواج منها يأملون أن يصلوا إلى بغيتهم عن طريق الحب
مثلما يرتدي رجال الفضاء بدلة الفضاء، ويرتدي الغواصون بدلة الغوص، كانت المُسَفِّلة غيوم عالم كلما همَّت بالهبوط إلى العالمي السفلي، ترتدي بدلة التَسَفُّل "الكفن"، وكانت ما تنفك تقول لنساء القرية إنها عندما ترتدي الكفن تشعر كما لو أن روحها خرجت من جسدها.
نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.