مقالات

أبو الروتي ( 10)

02/12/2024, 12:30:17

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي)..  وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

"إنْدَكُّوْ أبو الروتي".

كانوا بالزيِّ المدرسيّ، وفي طريقهم إلى مدرستهم الحكومية، وما إن أبصروني أمامهم حتى راحوا يهزأون بي، ويسخرون مني، ويطلقونَ ضحكاتٍ عاليةً، وينادونني قائلين:

"يا بو الروتي فين رايح، يا بو الروتي؟!".

وكانت تلك أول مرة أتعرض فيها لموقف كهذا، منذ أن وصلت إلى عدن.

صحيح أن نجيب، الذي أرشدني إلى مدرسة البادري، كان أول من أطلق عليّ "أبو الروتي"؛ لكنه لم يكن يسخرُ أو يهزأ، أما هؤلاء الشياطين الخمسة فكانوا يسخرون، ويضحكون.

وقد رأوا في ذهابي إلى المدرسة شيئاً منافياً للعقل وللمنطق؛ لذلك كان عليهم أن يعمِّدوا مروري إلى المدرسة بأنفسهم، وعلى طريقتهم، وهذا ما حدث.

لقد راحوا يمشون خلفي، ويستفزونني، ويتحرّشُون بي، ويسألونني: 

"فين رايح يا بو الروتي؟".

وكنتُ أتجاهلهم، وأواصل سيري، وهم يواصلون استفزازهم لي، وتحرشهم بي:

"بأيش من مدرسة تدرس يا بو الروتي؟".

وبدلا من أن أرد عليهم، رحتُ أسرع في المشي، وأوسّعُ خطواتي، وهم خلفي يصخبون، ويضحكون، ويواصلون استفزازهم لي، وتحرشهم بي، ورشقي بأسئلتهم المستفزة:

"بأيش من صف يا بو الروتي؟".

ولأنني في أول العام الدراسي، وفي أول يوم أذهب فيه إلى المدرسة، فقد كنتُ خائفاً ومرتبكاً، وأبدو كالأهبل، وغير واثق من نفسي، زد على ذلك أن مزاجي يومها لم يكن يسمح لي بتقبل أي شكلٍ من أشكال الاستفزاز، أو المزاح،  أو السخرية. 

وقبل أن أصل إلى نهاية الشارع الذي تقع فيه "مدرسة السايلة"  (المتحف الحربي حاليا)، كان كبيرهم قد اقترب كثيرا منِّي، غير أني لم أكن أعرف ما الذي يخطِّط له!! وما هي نواياه!! وما الذي بمقدوره أن يفعله بي؟!!

ومع أني كنتُ أتوجّسُ خوفاً من عصابة الخمسة، إلا أني، وبالرغم من توجُّسي، بدوت مطمئناً لكوني أمشي في شارع مزدحم بالناس، لكن كبيرهم  كان يقتربُ مني أكثر وأكثر..

وكنتُ كلما أسرعتُ ووسّعتُ خطواتي أسرع هو الآخر ووسّع خطواته.

وعند وصولي إلى ناصية الشارع، قُبَالة البنك الأهلي، وقبل أن أنعطف يميناً باتجاه الشارع المؤدي إلى مدرستي (المعهد العلمي الإسلامي) خطف حقيبتي المدرسية، وجرى مبتعداً، وخلفه جرى الشياطين الأربعة؛ كانوا يجرون، ويضحكون ساخرين، وصدى ضحكاتهم تخترق سمعي كأنها المسامير.

لحظتها، وقد خطفوا حقيبتي، شعرتُ كما لو أنهم خطفوا  مستقبلي؛ ولشدة الصدمة بقيتُ واقفاً في الناصية ومتجمداً، ولا أدري ما الذي أفعله!! 

بعدئذٍ، وقد قطعوا الشارع ومضوا من أمام البنك الأهلي جريت خلفهم، ولحقت بهم في الساحة المقابلة لمبنى المجلس التشريعي، وكانوا قد فتحوا الحقيبة ليروا ما الذي تحتويه!! 

قلت لكبيرهم، الذي خطف حقيبتي:

"هات شمطتي".

وبدلا من أن يعيد ها إليّ أخرج منها القلم، وقال ساخرا، وهو يرفعه أمامهم:

"قلم أبو الروتي".

ولحظتها انفجروا يضحكون على قلم "أبو الروتي".

 -"هات شمطتي" (قلت له ثانية بصوت أكثر حدة).

لكنه أخرج المسطرة، وقال، وهو يلوِّح بها في وجوههم: "مسطرة أبو الروتي". 

وراح كبيرهم يواصل لعبته، وهم يواصلون الضحك؛ وأنا مليان قهر، وغضب، وفي نفس الوقت مليان خوف. كان عندي خوف من عيال عدن، ولدي شعور بأن العدانية في المضرابة أفضل منّا -نحن الجبالية- الهُبْل القادمين من قرى الشمال، ومن سقوف الجبال.

 لكني، وعلى الرغم من خوفي، وثقتي المهزوزة بنفسي، ويقيني بأنهم سوف يضربوني، ويغلبوني؛ إلا أنه لم يكن بمقدوري، وهم يسخرون مني، احتمال المزيد من السخرية،  وكان لا بُد لي من استعادة حقيبتي المدرسية، ومواصلة السير إلى المدرسة. 

كان الغضبُ، الذي تجمّع في صدري، أكبر من أن أحبسه.. وبقوة الغضب اندفعتُ صوب خاطف حقيبتي ووجّهتُ ركبتي صوب خصيتيه، وضربته بها ضربة قويةً وموجعة؛ مخالفاً بذلك القوانين المعمول بها في قريتنا، وفي معظم القرى اليمنية.

كان من غير المسموح في قريتنا -أثناء العراك مس " - الخصيتين-  لكنّي من شدة القهر رفستهُ في خصيتيه، حتى لقد صرخ صرخةً أفزعتني وأفزعت أصحابه الأربعة الذين وثبوا عليّ دفعة واحدة.

وتبيّن لي أثناء اشتباكي معهم أن كل تلك الحِيَل، التي تعلمتها في القرية، والتي كنت أخرج بها من معظم معاركي منتصرا غير ذات جدوى.

فعندما رحتُ استخدمُ مع أحدهم "تقنية الحِكْوَال" كيما أسقطه أرضاً، سقطتُ أنا بدلاً عنه.

وبعد سقوطي، انقضّ الأربعةُ عليّ وراحوا يضربونني بشراهة، وينتقمون لكبيرهم الذي كان مُقعداً ويعوي من الألم؛ لكنه وقد أبصرني مفروشا في الأرض، ارتفعت معنوياته، وقام لينضم إليهم.

وفيما كان الشياطين الخمسة يضربونني، ويوسعونني ضرباً، كان الناس يمرون من جنبنا ويرونني أُضربُ أمامهم ويواصلون سيرهم، ولا كأنّ الأمر يعنيهم.

أما أولئك الذين كان لديهم فائض من الفضول، وفائض من الوقت، فكانوا إذا توقفوا يتوقفون كيما يتفرجوا عليّ وأنا أُضرب، وليس من أجل أن يفصلوا بيننا، ويفضُّوا الاشتباك.

لكن ما أغاضني يومها هو أن أحد المتفرجين راح يتبجّح قائلا:

"هذا أبو الروتي جارنا أعرفه،  أكيد عمل عملة زعّلّتهم وخلّتهم يضربوه!!".

وفعلا كان الرجل يعرفني، وكنتُ أعرفهُ، والتقيه يوميا  عند ذهابي لصلاة الفجر في مسجد سوق الحراج، وقد فرحت عندما لمحته واقفاً بين الواقفين والمتفرّجين، وقلتُ بيني ونفسي:

"أكيد با يفرع لي، وينقذني منهم".

لكنه -للأسف- وقف يتفرّج عليّ وأنا أُضربُ أمامه، وفوق هذا راح يبرّر ضربهم لي أمام المتفرجين بأنني عملت عملة جعلتهم يجتمعون عليّ ويضربونني، وكان كلامه ذاك قد آلمني وجعلني أوقن بأنه عدني من أبناء عدن، لكن الجبالية الذين كنت أعرفهم من ملابسهم ومن كلامهم وقفوا يتفرجون مثلهم مثل العدانية، فضلا عن أنهم كانوا قد صدقوا الرجل العدني، الذي قال إنني عملت عملة، وقد سمعت أحدهم يقول وكأنه يوجه كلامه إليّ -أنا الغريب القادم من القرية:

"ياغريب كن أديب".

كان الأوغاد الخمسة قد شبعوا وتعبوا من ضربهم لي، وكانوا بحاجة إلى رجل حكيم يتدخل ويقول لهم: "يكفي".

 ولأنهم لم يجدوا من يقول لهم ذلك، راحوا يواصلون ضربي، رغم أنهم كانوا قد أشفوا غليلهم، وتعبوا من الضرب.

وبدا لي يومها، وأنا أضرب، أن الناس في المدينة ليسوا مثل  الناس في القرية؛ ذلك لأن الناس في القرية بمجرد أن يبصروا اثنين يتعاركان حتى يدخلوا لفض العراك، وفض الاشتباك، أما في المدينة، فلا يتدخلون، وإنما يقفون ويتفرجون مثلما يتفرجون في السينما على فيلم.

يومها، وقد يئست من ظهور مفارع يفرع لي من الشياطين الخمسة، فرعتُ لنفسي بنفسي. 

أما كيف حدث ذلك!! فهو أني في الأول كنت أقاوم وأصرخ واشتم، وكانوا هم يزدادون قسوة، ورأيت أن أفضل طريقة لجعلهم يتوقفون عن ضربي هو أن استسلم للضرب، وأتوقف عن المقاومة، وعن استفزازهم وشتمهم.

ولأن الحاجة أم الاختراع، وأم الاكتشاف، ولحاجتي لإنقاذ نفسي، اكتشفت في تلك اللحظة، ومن وحي التجربة أسلوب "المهاتما غاندي" في المقاومة السلمية، فكانوا يضربونني، وأنا صامت ساكن لا صوت يصدر عني، ولم تصدر مني أدنى حركة أو إشارة تشي بمقاومتي لهم..

وعندئذ حسبوني ميِّتاً، وشعروا بالخوف، فتوقفوا عن ضربي، وانطلقوا يجرون إلى مدرستهم..

وفي تلك اللحظة، التي انصرفوا فيها وتركوني مطروحا في الشارع، رأيت جارتنا الحلوة "كافيتا" تقترب مني، وتقول لي، وهي تجمع دفاتري المبعثرة، وتضعها في حقيبتي:

"ليش ضربوك؟!".

لحظتها صُعقت، ودارت الدنيا في رأسي، وتملكني شعور بالخزي؛ ذلك أن سؤالها كان يعني بأنها رأت الشياطين الخمسة وهم يضربونني، وكان حضورها، في ذلك الوقت، ورؤيتها لي وأنا أضرب موجِعَين لي أكثر من الضرب.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.