مقالات
أبو الروتي (18)
بعد رسوبي في صف رابع ابتدائي، كنت -عصر كل يوم- أذهب إلى البحر، وأظل هناك إلى وقت غروب الشمس، أفكّر في وضعي بعد أن رسبت، وماذا عليَّ أن أفعل؟ وإلى أين أذهب؟ وهل أبقى في فرن الحاج أجمع قوارير الخمر، وأواصل الدراسة في المعهد العلمي الإسلامي، أم أترك الدراسة وأذهب إلى البحث عن عمل في مكان آخر؟
وطوال أيام العطلة، بقيت أتردد على البحر علَّه يساعدني في اتخاذ قرار بشأن مستقبلي.
وذات يوم، ذهبت لزيارة أختي "بنود" في الشيخ عثمان، وكان يوم خميس، ونمت عندها. وفي اليوم التالي، وكان يوم جمعة، ذهبنا إلى البحر بصحبة أسرة عدنية من الجيران، مكوّنة من أم وبنتها وابنها، وكانت البنت العدنية -اسمها ياسمين- في نفس عمري، جميلة ومرحة، ولها ضحكة ساحرة ولذيذة. وأول ما صعدنا إلى السيارة، قلت كلاما بلهجة القرية، ولم أعد أذكر ما هو الكلام الذي قلته، لكنها ضحكت من كلامي القروي ضحكةً أوجعتني، وكنت على وشك أن أشتمها وأتخانق معها، لكنني خفت أن تزعل أختي مني.
وعند وصولنا الساحل، رحت أجري باتجاه البحر؛ لألفت انتباهها، ولأثبت لها أنني أفضل من أخيها الذي لا يعرف السباحة. وحين رأتني أختي "بنود" وأنا أجري باتجاه البحر سألتني إن كنت أعرف السباحة؟ فقلت لها إنني تعلمت أسبح في بركة جدي علي إسماعيل، وبعدها سبحت في بركة السيّد.
وفي القرية، كان هناك من يقول لنا إن الذي يسبح في بركة السيّد بمقدوره أن يسبح في البحر من دون أن يتعب، وكنا نحن نصدقهم؛ لذلك رحت أسبح في البحر، وفي اعتقادي أنني أستطيع السباحة من دون أن أتعب.
وأذكر أن أختي "بُنُوْدْ"، حين رأتني أبتعد عن الشاطئ، راحت تصيح بكل صوتها وتطلب مني أن أرجع وأسبح بالقرب من الشاطئ، وكنت أرفض وأعاند، وكل ذلك لألفت انتباه البنت العدنية ياسمين، التي سخرت من لهجتي القروية.
لكني، وبعد أن قطعت مسافة بسيطة، شعرت بالتعب، وتبيَّن لي بالتجربة عدم صحة الكلام الذي قيل لنا، وكان أن قررت العودة لكن العودة كانت صعبة، فقد تعبت تعبا شديدا، وفقدت لياقتي وقدرتي على المواصلة، وشعرت بالعجز والشلل، ورحت أتخبط تخبطَ من يوشك على الغرق، وعندما أبصرتني أختي "بنود" وأنا أتخبط، وأوشك على الغرق، راحت تستغيث وتصرخ بكل صوتها:
"أخي غرق.. أخي يغرق".
وبعدها قفز واحد من أولئك الغواصين المكلَّفين بإنقاذ الغرقى، وبعد أن أنقذني وأوصلني إلى الشاطئ صفعني صفعةً موجعة، وقال لي بما معناه:
"لا تسبح إلى مكان لا تستطيع العودة منه".
لكن الذي أوجعني أكثر من الصفعة هو أن البنت العدنية ياسمين، التي أردتُ بمغامرتي تلك أن ألفت انتباهها وأثبت لها أنني سباح، لم تلتفت إليَّ، ولم تبصرني، وأنا أسبح، وأبتعد عن الشاطئ، وإنما سمعتْ أنني كنت على وشك الغرق، وأن المنقذ أنقذني.
وبعد سماعها الخبر، علّقت قائلة إنه ما كان يجب عليَّ أن أسبح طالما أني لا أعرف السباحة:
"ليش يسبح بالبحر وهو ما يعرفش؟!".
وكان تعليقها ذاك قد أوجعني مثلما أوجعتني ضحكتها من لهجتي القروية. لكني فيما بعد، حين رأيتها ترفع فستانها إلى ما فوق ركبتيها وتكشف عن ساقيها وتمشي باتجاه البحر وهي تضحك ضحكتها المفعمة بالدلع وبالأنوثة، شعرت بدوار لذيذ، وبقشعريرة لذيذة تجتاحني، وخرج من فتحة البول دم أبيض أرعبني.
وعندما سألت ابن أختي، عبده سيف، عن الدم الأبيض، الذي خرج مني قال لي إن البنت عندما تبلغ يخرج من محل بولها دم أحمر، ويكون ذلك هو الدليل على بلوغها، وأما الولد فيخرج منه دم أبيض. وراح يطمئنني، ويقول لي إن ذلك الدم الأبيض، الذي خرج مني، هو الدليل على أني بلغت، وصرت رجلا.
وفي المساء، وأنا أتهيأ للنوم، استرجعت صورة البنت ياسمين، وهي تدلف إلى البحر عارية الساقين، ولحظتها سمعت صوتا داخليا يغريني بالخروج من المعهد العلمي الإسلامي، ومن بيت وفرن الحاج في كريتر، والانتقال إلى كلية "بلقيس"، وإلى بيت أختي "بنود" في حي الشيخ عثمان؛ لأكون قريبا منها، وهذا ما حدث.
سجَّلت في كلية "بلقيس"، وفي الكلية عملوا لي امتحانًا لتحديد مستواي، وبعد الامتحان دخلت صف خامس ابتدائي، وأتذكر أنني كتبت يومها رسالة إلى جدتي أخبرها بأنني خرجت من المعهد العلمي الإسلامي، وسجلت في كلية "بلقيس". فرحت جدتي؛ والسبب أنها لم تكن راضية بدخولي المعهد العلمي الإسلامي؛ لاعتقادها بأن التعليم الإسلامي ليس تعليماً، ثم إنها لم تكن تفرق بين المعهد العلمي الإسلامي وبين المسجد، وكان في ظنها أن الذين يدرِّسون فيه فقهاء وليسوا أساتذة. وأن الطالب المتخرج منه لن يتكلم اللغة الإنجليزية، ولن يحصل على وظيفة محترمة، ويتقاضى راتبا محترما.
وكانت أمنيتها هي أن أدرس في"البادري" ("مدرسة النصارى" كما تسميها)، وهي المدرسة التي درس فيها أخي عبد الحليم.