مقالات

أبو الروتي (19) "تَفْلَةُ السيد"

26/01/2025, 17:15:19

كان أبي ثابت حميد رجلاً مزواجاً، حتى إنني لا أعرف بالضبط كم بلغ عدد زوجاته. لكنه، قبل أن يتزوج بأمي، تزوج بثلاث نساء، اسم إحداهن "بشارة".

وكانت "بشارة" قد أنجبت له أخي سيف وأخواتي: ثبات، وزينب، وزهر، وبُنُود.

وبعد أن طلقها، تزوجها رجل من قريتنا اسمه علي ثابت. وكان علي ثابت هذا قد تزوج من قبل بامرأة أنجبت له ولدين؛ هما محمد وعبد الوهاب، وبنتاً هي رقية.

وبعد زواجه من خالتي "بشارة" (طليقة أبي)، زوَّج ولديه محمد وعبد الوهاب بابنتيها: زهر وبُنُود.

تزوج ابنه محمد أختي بُنُود، وتزوج ابنه عبد الوهاب أختي زهر. وكان الأخوان محمد وعبد الوهاب يقيمان في مدينة الشيخ عثمان، وكل واحد منهما معه مخبز خاص به.

وبعد انتقالي إلى كلية بلقيس، اشتغلت في مخبز صهري عبد الوهاب (زوج أختي زهر)، وسكنت في بيت صهري محمد (زوج أختي بُنُود).

وأثناء إقامتي في بيت صهري محمد، كانت تقيم معنا فتاة شابة مرفّهة تبدو عليها السمنة والنعمة؛ اسمها شريفة. 

ومع أن حظها من الجمال كان أقل من حظ أختي "بُنُود" التي كانت أجمل أخواتي وأجمل نساء القرية، إلا أن حظها من النوم والراحة كان عظيماً. 

كانت تنام حتى قرابة الظهر، وكل العمل في البيت تقوم به أختي "بُنُود"، فيما هي معفية من كل أعمال البيت تتصرّف كما لو أنها أميرة، وتتحرك مختالة ومزهوة بحزامٍ من الذهب يطوِّق خصرها. 

وبالنسبة لي، كانت تلك أول مرة أرى فتاة تتزين بحزام من ذهب. وقتها لم أكن أعرف من تكون هذه الفتاة المزهوة بنفسها وبحزامها الذهبي، لكني، بعد مرور أسبوع أو أسبوعين، عرفت أن شريفة هذه هي بنت أخت صهري محمد.

وبعد أن عرفت أن صهري محمد هو خالها، زعلتُ وقلتُ لأختي بُنُود:

- "ليش شريفة ما تساعدك بعمل البيت؟ ليش خالها يدلِّعها؟".

لكن أختي ابتسمت وذهبت لتنجز عملها، ولم تُجب على سؤالي.

وأثناء إقامتي في بيت صهري محمد، في العام 1965، وكنت حينها في الصف الخامس الابتدائي، كان هناك زائر ليلي يزور البنت شريفة. وكان حضور زائر الليل هذا يثير شيئاً من الخوف والرهبة والقلق، وكنت ألاحظ وجه أختي بُنُود ووجه صهري محمد يشحبان من الخوف عند حضوره، وكان خوفهما ينتقل إلينا بالعدوى، فكنا نصمتُ ونتوقف عن الضحك واللعب والمرح، ونظل صامتين إلى أن يغادر.

لكن أختي بُنُود وصهري محمد كانا بعد مغادرته يظلان على قلق، لكأنهما يتوقعان شراً، حتى إن كل طرقة في الباب بُعيْد مغادرته كانت تثير لديهما شعوراً بالخوف والشك والريبة.

ولم يكن زائر الليل هذا يدلِفُ إلى الداخل، وإنما كان يتوقف في مدخل البيت، ويظل هناك لصيق الباب، يتكلم مع البنت شريفة لمدة عشر دقائق، أو رُبع ساعة، ثم ينصرف. وهكذا في كل زيارة، ولم يحدث أبداً أن رأيته يدخل البيت ليسلّم على خالها محمد.

وكنت في كل زيارة له، أتساءل بيني وبين نفسي: "من يكون هذا الزائر الذي يأتي ليلاً ويثير بحضوره ذلك القدر من الخوف والرهبة؟ وما علاقته بالبنت شريفة؟ هل هي زوجته أم أخته؟ ولماذا كلما جاء لزيارتها يجيء في الليل ولا يجيء في النهار؟".

وذات يوم، أبصرتْ أختي بُنُود انتفاخاً غير طبيعي في عينيّ، فارتعبت، وراحت تسألني وتقول لي:

"مُوْ بِهِنْ عيونك -يا عبد الكريم؟!".

قلت لها: 

"هذا من تَفْلَة السيد".

قالت مستغربة: 

"مِنُو السيد؟".

ورحتُ، وأنا أتوجَّع من عيوني، أحدثها عن السيد عبد اللطيف الصوفي، وعن السيد محمد حسان في جبل حبشي،  والسيد محمد مانع، وعن غيرهم من السادة الذين عالجوني بالبُصاق، وظلوا لسنوات يبصقون في عينيّ معتقدين بأن بصاقهم بنسلين.

وقلت لها: "بدل ما يعالجونا، أعْمَونا بالتفَّال.. يعرفوا بس يتفُلُوا فوق عيوني!!".

وطلبت مني أختي بُنُود أن أخفض صوتي، وظننتُ أنها، مثل أمي ومثل كل نساء القرية، تخاف عليَّ من السادة وتخشى أن يسمعوا ما قلته عنهم، ويلحقوا بي الأذى.

لكني قلت لها، وأنا أكاد أنفجر بالبكاء:

- "كلهم (الطلبة) يشوفوا الدرس المكتوب عرض السبورة، وأنا ولا أشوف حاجة، والسبب حقهم التُّفّال". 

وكنت على يقين بأن السيد عبد اللطيف الصوفي والسيد محمد حسان في جبل حبشي وغيرهما من السادة، الذين بصقوا في عيوني، هم السبب في تدهور نظري.

وحين لاحظتْ أختي بُنُود أنني صرت قاب قوسين أو أدنى من البكاء، راحت تطمئنني، وتقول لي إنها ستأخذني إلى مستشفى "عَفَارَة"؛ لتعالجني. 

لكني توجَّست خوفاً من كلامها، وقلت لها: 

-"لو السيد عَفَارة يتفُل فوق عيوني، والله لا أسب له".

قلت لها ذلك وفي ظني أن كل المعالجين سادة، وكلهم يعالجون بالبُصاق.

لكن أختي بُنُود ضحكت من مخاوفي، وقالت لي: "عفارة دكتور، مش هو سيد".

وراحت تطمئنني، وتقول لي إنه لن يبصق في عيوني، وإنما سوف يعطيني علاجاً مختلفاً عن علاج السادة. 

وفي مستشفى الدكتور عفارة، تعالجت من مرض "التراخوما" ومن أمراض أخرى حملتها معي من القرية.

وكان الفضل في ذلك لأختي بُنُود، التي التفتت إليَّ، وأخذتني إلى المستشفى.

وفي طريق عودتنا، وفيما رحنا نقترب من البيت، طلبت مني عدم ذكر السيد عبد اللطيف أمام البنت شريفة.

وقالت لي: 

"إلتهم تتكلم على السيد عبد اللطيف الصوفي قدام شريفة".

وحين سألتها عن السبب، قالت لي:

"شريفة بنت السيد عبد اللطيف الصوفي". 

وعندها تفاجأت، وسألتها عن زائر الليل الذي يزورها، وهل هو أخوها أم زوجها؟ فقالت لي إنه زوجها.

وحين سألتها عن اسمه، قالت إنه ليس من قريتنا، واكتفت بذلك، ولم تذكر لي اسمه.

وبعد الاستقلال، ورحيل البريطانيين من عدن، عرفتُ أن زائر الليل هذا الذي كان حضوره يجعل وجه أختي يشحب من الخوف هو المناضل عبد الفتاح إسماعيل (زوج شريفة عبد اللطيف الصوفي). 

أيامها كان قائد الجناح العسكري للجبهة القومية في مدينة عدن (فدائيين)، وكان ملاحقاً من قِبل الإنجليز، وتاركاً زوجته شريفة في بيت صهري  محمد علي ثابت؛ الملقب "أبو بُجْمَة".

ومن المفارقات الموجعة أن أختي بُنُود، التي احتضنت زوجة المناضل عبد الفتاح إسماعيل طوال فترة الكفاح المسلّح، أصيبت بالمياه الزرقاء، واعتمت، وصارت عمياء، ولم تجد من ينقذها من العمى، ولا من يلتفت إليها ويمنحها منحة علاجية إلى روسيا أو الهند، أو إلى أي دولة أخرى.

وكان ذلك في الزمن الذي سطع فيه نجم عبد الفتاح إسماعيل، وسطعت فيه نجمته الحمراء، وبلغ ذروة مجده.

وبعد الوحدة، عندما  قدمت من عدن إلى صنعاء، أخذتها إلى مستشفى "الثورة"، وعرضتها على طبيب عيون هندي شهير، قال لي بعد أن فحصها إنها تأخّرت كثيراً، وصار من الصعب علاجها، وعندها فقدتْ الأمل تماماً في استعادة بصرها.

وبعد عودتها إلى البيت راحت تبكي بكاءً أوجعني، وأوجع ابنتها إيمان. وحكت لي ابنتها إيمان عن الجهود التي بُذلت من قِبلها ومن قِبل أبيها محمد  لإنقاذها من العمى، وقالت إن أباها محمد علي ثابت، 

الملقب بـ”أبو بُجْمَة”، بعد أن يئس ولم يجد أي التفاتة من رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، المناضل عبد الفتاح إسماعيل، ولا من زوجته المناضلة شريفة عبد اللطيف الصوفي، راح -وهو في ذروة ألمه على زوجته وحبيبته وشريكة حياته بُنُود- يدعو عليهما، ويدعو على “النجمة الحمراء” بالعمى، ويدعو على الحزب، وعلى الدولة، ويصيح قائلاً -ووجهه مغسول بدموعه: 

"يا رب تعمي نجمتهم، وتعمي حزبهم، وتعميهم، ويبكروا الصبح عميان".

وفي صبيحة 13 يناير 1986، اعتمت "النجمة الحمراء"، وبعد أن كانت تقود البحر تحولت إلى نجمةٍ دمويةٍ عمياء تغرق البحر بالدم. 

ويومها كان العمى الحزبي قد انتشر في القيادة والقواعد، وصاروا كلهم عميانا يرون بعيون بنادقهم ومسدساتهم، ويقتلون بعضهم بعضاً دون تمييز. 

وكان ذلك قبل عشرين عاما من صدور رواية "العمى" للبرتغالي جوزيه ساراماغو.

 

مقالات

"المتعة الروحية في السيرة الذاتية"

كنا قد تناولنا ما يتعلق بكتابة المذكرات السياسية، التي تم تحميلها فوق ما تحتمل، وهنا نتناول باختصار المتعة والفائدة الروحية والفكرية والإنسانية فيما يتعلق بقراءة كتب السيرة الذاتية، التي اشتهرت ولمع أصحابها، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من شخصياتهم

مقالات

بين تجربتين (مقاربة أم لا مقاربة).. جنوب اليمن وجنوب السودان

إلى أمدٍ غير معلوم، سيظل الجدل قائماً بشأن مستقبل اليمن، وما إذا كان لا يزال بإمكانه العودة إلى صيغة الدولة الاتحادية، التي توصل إليها مؤتمر الحوار الوطني العام 2012، أم أن سيناريوهات التفكك جنوباً وشمالاً ضمن دولة فاشلة هو الأمر الأكثر ترجيحاً في المدى المنظور على الأقل؟

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.