مقالات
أبو الروتي (21)
كنتُ في طفولتي أكره الدراسة، وأكره أن أجد نفسي محجوزًا لعدة ساعات بين أربعة جدران، لكنَّ كراهيتي ازدادت بعد انتقالي إلى كلية بلقيس، والسبب أن الدراسة في كلية بلقيس كانت مسائية، تبدأ بعد خروج طلاب الفترة الصباحية. وكان الوقت بالنسبة لي غير مناسب وغير مريح.
كنتُ كلَّ صباح أخرج من بيت صهري محمد علي ثابت وأنا بكامل نشاطي وحيويتي، وأذهب للعمل في مخبز أخيه عبد الوهاب في حارة دُبَعْ، وأظل أشتغل إلى قرابة الظهر، ثم أعود إلى بيت صهري محمد، فأرتدي الزيَّ المدرسي على عجل، وألتقط حقيبتي المدرسية، وأتجه إلى الكلية وأنا مفرغ من الطاقة والحماس، أشبه ما أكون ببطارية مطفأة.
ومن لحظة دخولي الفصل، أظل أنتظر على قلق اللحظة التي يُدَقُّ فيها الجرس مُعلِنًا خروجنا للراحة. وبعد عودتنا من الراحة، أنتظر بقلق أشد صوت رنين الجرس معلنًا وقت المغادرة.
لم يكن مزاجي يسمح لي بالتلقي والاستيعاب، وكثيرًا ما كنتُ أخرج من الكلية كما دخلتُ. وربما يرجع ذلك إلى سوء الوقت، وسوء مزاجي، وليس إلى سوء المدرسين، ذلك لأن كلية بلقيس كانت تضم أساتذة أكفاء، بعضهم من خريجي جامعات القاهرة وبغداد وبيروت، والبعض الآخر من خريجي جامعات أوروبية وأمريكية.
وفي السنة التي التحقتُ فيها بكلية بلقيس، كان الأستاذ حسين علي الحبيشي عميدًا للكلية، والأستاذ محمد أنعم غالب نائبًا له. وكان من بين المدرسين الذين درَّسوني الأستاذ عبد العزيز عبد الغني الذي كان يدرِّسنا اللغة الإنجليزية، والأستاذ صالح نصيب الذي كان يدرِّسنا اللغة العربية، وأما الفنان عبد الجبار نعمان فكان يدرِّسنا مادة الرسم. وأستطيع القول إنه الوحيد الذي أدهشني من أول حصة.
دخل الفصل وراح يرسم فوق السبورة بالطباشير الملونة منظرًا ريفيًا، وخلال دقائق كانت السبورة قد امتلأت بالحقول والأشجار، وكانت ثمة بقرة تكاد تنطق وتخور لشدة واقعيتها. وإلى اليوم، ما زال ذلك المنظر حاضرًا في ذاكرتي، وكان السبب في حضوره وتذكري له ليس فقط لأنه كان آسرًا وساحرًا، وإنما لأن الأستاذ عبد الجبار نعمان، وهو يصحح أوراقنا، أعطاني الدرجة صفر.
وعندما رحتُ أتظلم، قال لي وهو يضع دائرة بالقلم الأحمر حول رأس البقرة:
- هل هذا رأس بقرة أم رأس حمار؟!
وأذكر أنني بعد تخرجي من الجامعة والتحاقي بوزارة الإعلام والثقافة، التقيته في رواق الوزارة، وبعد أن سلَّمتُ عليه، رحتُ أسأله وأقول له:
- هل تذكرني يا أستاذ عبد الجبار؟
قال لي: لا، من أنت؟
قلتُ له: هل تذكر الطالب الذي أعطيته درجة صفر في مادة الرسم بكلية بلقيس؟
قال لي: ذكرني، فقد نسيت.
وبدا محرجًا، لكأنني جئتُ أعاتبه وألومه لكونه ظلمني وأعطاني درجة صفر. ثم، وقد ذكَّرته وقلت له بأني الطالب الذي رسم البقرة برأس حمار، ضحك وأخذني بالأحضان.
وإلى جانب الأستاذ عبد الجبار نعمان، الذي أثار دهشتي من أول حصة، كان هناك أستاذ آخر لم تسعفني ذاكرتي باستحضار اسمه، فقد دخل الفصل بصحبة العديد من الآلات الموسيقية، وقال لنا إنه سوف يدرِّسنا الموسيقى.
وبدأ بتدريسنا السلم الموسيقي: دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي. وأذكر أنني عدتُ يومها إلى البيت وأنا فرحان وفي حالة من النشوة، حتى إنني أول ما دخلتُ البيت، رحتُ أردِّد السلم الموسيقي بصوت عالٍ:
- دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، دووووو!
وأول ما سمعتني أختي بنود، انتابها شعور بالقلق، وظنت أن شيئًا ما حدث لي في الكلية وأثَّر على عقلي. لكني رحتُ أكلمها عن السلم الموسيقي، وعن النغمات والألحان، وقلتُ لها إنهم يعلموننا الموسيقى والتلحين، وبأن حلمي أن أصير ملحنًا. لكنها المسكينة لم تفهم قصدي، وظنت أنني أرغب في أن أكون ملحِّمًا، وقالت لي مستغربة:
-"بدل ما توقّع دكتور أو مهندس، توقّع ملحم؟!"
وذات مرة، حضرت البنت العدنية ياسمين، تلك التي كانت تسخر من لهجتي القروية، وعندما عرفت أنني أدرس في كلية بلقيس، قالت ساخرة إن كلية بلقيس مدرسة متخلِّفة يدرس فيها "الجبالية المتخلِّفين".
كان كلامها ذاك قد استفزني وأزعجني، فذهبت أمام أختي بنود وابنتها إيمان، وسألتها عن عدد نغمات السلم الموسيقي وقلت لها:
- كم عدد نغمات السلم الموسيقي؟!
كان سؤالي ذاك قد أربكها وأظهر جهلها، وكسر غرورها، وجعلها تقف عاجزة ومرتبكة. وحين تبين لي أن مدرستها لا تدرِّس الموسيقى، شعرتُ بالتفوق، وبأن مدرستي أفضل من مدرستها، وبدأت أستعرض أمامها معرفتي بالموسيقى، وأردد نغمات السلم الموسيقي. حتى إنها، بعد أن كانت تسخر مني ومن كلامي القروي ومن مدرستي، طلبت مني أن أعلِّمها نغمات السلم الموسيقي، وقالت لي:
- "علِّمني النغمات، يا عبد الكريم."
وكانت ياسمين العدنية تحب الغناء، ولها صوت موسيقي وضحكة موسيقية. وبعد أن قلتُ لها إن حلمي أن أكون ملحنًا، اعترفت لي بأن حلمها أن تكون مغنية.
وذات يوم، حضرت إلى البيت وقالت لي وهي تناوِلني ورقة:
- "لحِّن لي هذه الأغنية، يا عبد الكريم."
وحتى لا أفضح نفسي أمامها، وأكشف عن جهلي، أخذتُ منها الورقة ووعدتها بأنني سوف ألحِّن كلمات الأغنية وأعيدها إليها ملحَّنة.
وفي الكلية، اقتربتُ من أستاذ الموسيقى وطلبت منه، وأنا أناوله كلمات البنت العدنية ياسمين، أن يلحنها لي. وخلال دقائق، أملى عليَّ الأستاذ اللحن.
وأذكر أن ياسمين كادت تطير من الفرح، فقد أعجبها اللحن وأطربها، ومن فرحتها قالت لأختي بنود:
- "عبد الكريم ملحِّن، يا خالة بنود! لحَّن لي الأغنية."
لكن أختي بنود كانت تتمنى أن أكون أكثر من مجرد ملحن، ولم يكن ثمة فرق عندها بين "الملحن" و"الملحِّم".
ومن بعد، كانت ياسمين تأتيني بكلمات أغانٍ لتلحينها، وكنت ألحِّنها من دون الاستعانة بأستاذ الموسيقى. وذات مرة، لحَّنت لها أغنية حب، ولشدة إعجابها باللحن، أعطتني خمسة شلن. وكان ذلك هو المبلغ الوحيد الذي دخل جيبي من عملي في التلحين والتلحيم!