مقالات
أبو الروتي (26)
في اليوم التالي، ذهبت لزيارة كافيتا في شارع الاتحاد، وعند صعودي السلم راح قلبي يخفق بقوة، وكاد يقفز من بين ضلوعي، لحظة أبصرتها أمامي.
كان الوقت صيفاً، والحر شديداً، وكانت كافيتا، لحظة وصولي، تلبس درعاً عدنيَّاً شفافاً، يشفُّ عن جسدها، ويشي بمفاتنها، وكان نهداها أول ما لفتا انتباهي.
كانا قد انتفخا، واستدارا، وتكوَّرا، وبدا لي شعرها أكثر طولاً، وأما هي فقد بدت لي بعد بروز وتكوّر نهديها أكثر جمالاً وأكثر أنوثة.
وبعد أن سلمت عليها، سألتني عن حالي؟ وأين كنت كل هذه المُدة؟ وراحت تلومني لانقطاعي عن الزيارة، وقالت إن أمها سألت عني عُمَّال الفُرْن فأخبروها بأنهم لا يعرفون شيئاً عنِّي.
وحين قلت لها إنني انتقلت إلى الشيخ عثمان، وأدرس في كلية "بلقيس"، سألتني عن سبب خروجي من المعهد العلمي الإسلامي، قلت لها، وأنا محرج، إنني رسبت باللغة الإنجليزية.
وبعد أن قلت لها الحقيقة، بدت محرجة أكثر مني كما لو أنها هي السبب في رسوبي، ثم وقد خرجت وتركتني لوحدي ظننتُ أنها ذهبت لتخلع ذلك الدرع الشفاف، الذي يشفُّ عن جسدها، ويشي بمفاتنها، لكنها عادت بالدرع نفسه، ولاحظتُ من حمرة شفتيها أنها ذهبت لتضع أحمر الشفاه.
ولأن أمها لم تكن موجودة في البيت، فقد وسوست لي نفسي أن أحدثها عن الفيلم الهندي "سانجام"، لكنها بدت غير متحمسة لسماع حديثي عن الفيلم. وقالت لي وهي تقترب مني بجرأة لم أعهدها:
"تحبني -ياعبد الكريم- والا لا؟".
وحين قلت لها إنني أحبها، قالت لي:
"لو أنت تحبني علمني البَوْس".
ولحظتها ارتعدت فرائصي، وسرت في جسدي قشعريرة،
ولخوفي من أن تحضر أمها وأنا أعلمها البَوْس قلت لها:
- "أخاف تجي أمك وأنا أعلمك البَوْس وتزعل مني".
لكن كافيتا راحت تضحك من مخاوفي، وتقول لي، وهي تقترب أكثر، إن أمها لن تعرف وإنها هي التي ستفتح لها الباب عند حضورها، وحتى لا تزعل مني رحتُ أعلمها البَوْس وأنا خائف، وجسدي كله يرتعش.
وما لبثت أن نسيت خوفي، ونسيت أمها، ونسيت نفسي، وفقدت القدرة على الإحساس بما حولي، وحتى حاسة السمع فقدتها، وأما كافيتا فعندما تناهى إلى سمعها صوت خطوات أمها وهي تصعد السلم، راحت تمسح ما لصق بوجهي من أحمر الشفاه.
وقد تفاجأت أمها بوجودي، وارتسم الفرح على وجهها حين رأتني، وبعد أن سلمت عليّ راحت تسألني عن الغيبة، وعن سبب عدم زيارتي لهما، وعما إذا كانت كافيتا قد زعلتني، حتى انقطعت عن الزيارة.
وسرعان ما راحت كافيتا تتكلم نيابة عني، وتبرِّر لي، وتذكر لها الأسباب التي جعلتني أنقطع عن الزيارة.
وقد أفرحني كلامها، ما عدا شيئا واحدا أوجعني، وتحسست منه، وهو قولها لأمها إنني رسبت باللغة الإنجليزية.
قالت كافيتا: "عبد الكريم رسب بالإنجليزي، وخرج من المعهد".
لكن أمها، وقد عرفت أن رسوبي هو سبب خروجي من المعهد العلمي الإسلامي، راحت تلومها، وتقول لها إنها لو كانت بذلت جهدا أكبر معي لما رسبت.
وكان في ظن كافيتا، وفي ظن أمها، أنني عدت إلى فُرْن الحاج، وإلى الشارع نفسه، لكنِّي قلت لهما إنني أقيم مع أخي في فُرْن بمنطقة العيدروس.
وعندما نهضتُ للمغادرة، اعترضت الأم، وطلبت مني أن أبقى لتناول الغداء.
وبعد الغداء، مررتُ على فُرْن الحاج، وأول ما أبصرني العُمال فرحوا، وتحلقوا حولي يسلمون عليَّ، وأما الكَرَّانِي، الذي كان يكنُّ لي الكراهية، فقد تفاجأ بحضوري، وبدا عليه الإنزعاج.
وعندما حضر الحاج عبد الله، وأبصر العمال يحتفون بي، راح يعتذر لي، ويقسم أنه لم يكن يعلم بأن القوارير التي كنت أذهب لإحضارها في الصباح الباكر مع عامل الفُرْن منصور قوارير خمر.
وكان عامل الفُرْن منصور قد أخبره بعد مغادرتي عن معاناتي بسبب تكليفهم لي بجمع قوارير الخمر، وكيف أني كنت أذهب إلى المعهد العلمي الإسلامي ورائحة الخمر تفوح مني، وذكر له كيف أنهم شكوني لمدير المعهد الذي بدوره طلب مني إحضار ولي أمري.
كان كل من في بيت الحاج، وكل العاملين في الفُرْن، بما في ذلك العامل منصور الذي كان لي بمثابة أخ، لا يعرفون أني رسبتُ في صف رابع، ولا يعرفون إلى أين ذهبت، وأين اختفيت.
وقبل أن أودعهم، وأعود إلى فُرْن العيدروس، سألني الكَرَّاني وقال لي:
-"تدرس يا عبد الكريم؟".
قلت له: "لا".
قال: "تشتغل؟".
قلت: "لا أشتغل ولا أدرس".
قال، وهو مستغرب: "ومُوْ جالس بعدن تعمل؟!".
قلت له: "أسَيْنِم".
ولحظتها انفجر العمال يضحكون من ردي عليه.
وبمجرد أن سمعت ضحكاتهم هدأ الغضب في داخلي، وذهبت تلك الكراهية التي كنت أكنِّها له.
وكان الكَرَّاني، المتزوج من بنت الحاج، قد ألحق بي الكثير من الأذى، حتى إنه حين كان يناديني لا يناديني باسمي، وإنما يقول لي متهكِّماً ومتَّهِماً:
-"يا مُسَيْنِمْ".
وأما حين لا أكون موجودا، ويريدني في عمل، فيقول لمن حوله من العمال:
- "أين المُسَيْنِمْ؟ صيِّحُوا للمُسَيْنِمْ".
وكانت كلمة المُسَيْنِم تكاد تعني عنده وعند أبناء القرية: "المجرم".
ذلك لأن الذهاب إلى السينما كان في نظرهم جريمة.