مقالات

إذا كان فبراير خطأً فإنه الخطيئة الكاملة لصالح!

10/02/2025, 18:24:03

السلطة، التي تدفع بالأوضاع نحو الانسداد السياسي والتردي الاقتصادي والمعيشي، تستولِّد الثورة كنتيجة حتمية للتاريخ.

الثورة ليست اختياراً ولا فعلاً رغبوياً، بل نتاج طبيعي لسلسلة من الظروف والأوضاع والمشكلات المتراكمة، التي تصل إلى نقطة الانفجار في لحظة غير متوقّعة.

وعندما تندلع الثورة، بأي صيغة كانت شعبية أو مسلحة، فإنها في جوهرها تمثل إدانة للنظام الذي يحكم البلاد وليس للشعب الذي يبحث عن مخرج لأزماته.

في اليمن، كان نظام علي عبدالله صالح، قبل 2011، قد أرسى أسس الفساد، وأنتج سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية.

في الجنوب، أدى نهج الإقصاء والتهميش، الذي اتَّبعه منذ 1994م، إلى أزمة عميقة تصاعدت في سلسلة احتجاجات شعبية؛ أخفقت القوة المسلحة في قمعها.

وفي الشمال، كانت الحركة الحوثية المسلحة تمثل واحدة من الأعراض الخطيرة لوصفة حكم صالح المحببة: صناعة الأزمة ثم إدارتها.

ستتجلّى الحركة الحوثية المسلحة كجزء من استثمارات صالح في جولات الحرب، التي تحوّلت إلى لعبة صالح "الطائفية" المفضلة للقضاء على جيش منافسه (محسن)، ثم ستبرز أكثر بصورتها الفاقعة في تدبير الانقلاب المشترك مع الحوثيين في سبتمبر 2014، عابراً على ظهر الرئيس الانتقالي (نائبه في حزبه)، الذي طالما أومأ إليه باعتباره جزءاً من صناعته.

اقتصادياً، كانت إدارة صالح الفاسدة قد حوَّلت كل الهبات الجغرافية والموارد الطبيعية في البلاد من فرص إلى نكبات.

على سبيل المثال، كان ميناء عدن الواعد يمثل نقطة تجارة حرة دولية منافسة لأفضل موانئ المنطقة، صيرته سياسة صالح إلى صفقات فاسدة للتعويضات من خزينة الدولة، قبل أن يُلقيه إلى جيب الإمارات كهدية مجانية للقضاء على مستقبله، مقابل هبات ومصالح شخصية.

 أما النفط والغاز فقد انتفع منهما الأمريكيون والفرنسيون والشركات الأجنبية، ومعهم صالح أكثر من اليمنيين مجتمعين؛ هل تتذكرون صفقة بيع الغاز بثمن أقل من ربع قيمته؟

تلك أمثلة عابرة، دون الخوض في فساد إداري واسع ضرب مؤسسات الدولة، وعلى نحو أخص كيان الجيش والأجهزة الأمنية التي حوّلها إلى إقطاعيات خاصة به وبعائلته.

في الأوضاع الطبيعية للدول، فإن تراكم المشكلات الاقتصادية مع هيمنة الفساد واحتكار السلطة والثروة من قبل أقلية، وانعدام القاعدة الشعبية التي يعبِّر الحكم عن مصالحها، تفضي حتماً إلى الفوضى والانهيار.

وفي اليمن، حيث يقبع البلد، الذي أخفق في بناء دولة للشعب في حدها الأدنى، كانت إدارة صالح قد فرغت من استكمال السيطرة العائلية على السلطة والانقضاض على جوهر النظام الجمهوري، وكانت هذه الإدارة مزيجاً من الفساد الممنهج واحتكار السلطة والثروة وتدمير المؤسسات.

بعبار أخرى: كانت هذه الأوضاع والظروف، التي أنتجها صالح، وصفة كاملة للوصول إلى الثورة.

لقد وفّرت إدارة صالح أسباب الثورة، منذ عشر سنوات سابقة لفبراير 2011 على الأقل، وطوال تلك السنوت كانت التقارير الدولية تتحدّث عن الدولة الفاشلة والانهيار الوشيك.

ما هو مؤكد أن النّخب اليمنية المعارضة والمستأنسة بمختلف مسمياتها لم تكن مستعدة لها، والأكثر تأكيداً أنها كانت مفاجئة للجميع.

عندما تكون الأوضاع والظروف الموضوعية مهياًة للانفجار لا يحتاج الأمر أكثر من عود ثقاب، وكان ذلك هو التونسي بوعزيزي، الذي ألهم جسده المحترق الاحتجاجات في عديد عواصم عربية؛ إنها العدوى في أفضل تجلياتها تعبيراً عن قانون الثورة.

بالنسبة لبلد يعاني من أزمات مركَّبة، وتعصف به الانقسامات، كاليمن، مثلت ثورة فبراير عنواناً للأمل بتجاوز التركيبة الملغّمة إلى أفق أكثر رحابة مع وعد بالانتقال إلى مرحلة تأسيس دولة المواطنين على أنقاض دولة الحكام.

لقد سطّر اليمنيون واحدة من أكثر محطاتهم إشراقاً في تاريخهم المعاصر، عندما قادوا احتجاجات سلمية في جميع المحافظات اليمنية، وتخلى الشعب المسلح عن أدوات العنف، مطالباً برحيل النظام الحاكم، وإنهاء الوضع الفاسد واحتكار السلطة، وإقامة دولة المساواة والمواطنة.

أن تطالب برحيل السلطة الفاسدة فذلك لا يعني أنك ضد الدولة، لكن كيف يمكنك إقناع الحاكم، وقد صار هو كل شيء.

في منتصف الطريق، تعرَّض اليمنيون للخديعة. النخبة السياسية التي لم تكن مستعدة للتعامل مع لحظة الثورة، كانت هي الجسر الذي عبر عليه الخارج للالتفاف على الثورة، ولقد انتهى الأمر بالتعامل معها كأزمة توسّطت الدول الخليجية لتسويتها، فآل الأمر إلى شراكة بين المعارضة وصالح على حساب الثورة!

أتذكر وقتها أنني كتبتُ مقالاً كيف أن التسوية، التي أبعدت صالح شكلياً من الرئاسة، أبقته في السلطة كصاحب قرار وتأثير أكبر من الجميع.

وأياً يكن الأمر، فإن الرئيس، الذي برع في المراوغات، حصل على تسوية أعفته وأركان حكمه من دماء اليمنيين، ومن المحاسبة عن أموالهم المنهوبة، وأبقت له جيشه بالتركيبة نفسها.

 كانت تلك الخطوة بمثابة الطلقة التي احتفظ بها صالح في جيبه للعودة منتقماً، رغم تسامح فبراير والقبول بمرحلة انتقالية تفضي إلى بناء دولة لكل اليمنيين.

إن قيم الحرية والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان، التي حملتها ثورة فبراير، أخذت معها جميع اليمنيين للتفكير الجمعي بمصير واحد يضمن المشاركة الواسعة في السلطة والثروة، تكللت بحوار واسع ضم مختلف قطاعات وفئات الشعب وجهاته.

بغض النظر عن تحفظ البعض على ما تخلل هذا الحوار وما أنتجه، فقد كان إجمالاً يمثل المسار الآمن لانتقال سلس وهادئ نحو مستقبل يدير فيه اليمنيون دولتهم بعيداً عن منطق التغلّب بالقوة وهيمنة العصبويات والجهالة.

بنظر صالح والحوثي، كان ذلك يشكِّل تهديداً لمركز السلطة الطائفي لا يجب أن يمُر.

وبالنسبة لدول الإقليم، التي كانت ترى في الانتقالة اليمنية السلسة، مصدر قلق، فقد تعيّن عليهم الاستعانة بالحوثي وصالح للتطويح بالبلد والشعب في حرب أهلية مفتوحة ومدمرة بالانقلاب.

 لقد خطف الجميع إلى حفرة، وكان أول أهداف الانقلاب القضاء على فبراير؛ باعتبارها الشرارة الأولى لتهديد السلطة الزيدية.

إذا كان اليمنيون يعتقدون الآن أنهم فقدوا جمهوريتهم بانقلاب الحوثي، فعليهم التذكّر أن صالح، الذي عاث في البلاد فساداً وأسس لكل هذا الخراب، كان هو رأس الحربة في عودة المشروع الإمامي وتمكينه.

هذا المآل يؤكد أن انتفاضة فبراير كانت أول من علّق أجراس الخطر في مواجهة التوريث والمشروع العائلي للبهلوان صالح، واستعادة روح الجمهورية.

لكن العائلة، التي كانت قد نخرت في أساس النظام الجمهوري ومكّنت للمشروع الإمامي في مفاصل الدولة وجيش الحرس والقوات الخاصة والأمن المركزي، وجدت نفسها في موقعها الطبيعي بعد انتفاضة فبراير جنباً إلى جنب مع الحوثي في السيطرة على صنعاء، وبعث الإمامة من جديد؛ باعتبار أن مشروع عائلة صالح التسلطي لا يختلف كثيراً عن مشروع عائلة عبدالملك الحوثي.

لم يؤمن صالح ولا عائلته بالجمورية ولا بدولة يمنية استولوا على رأس الدولة، فكانت الرئاسة هي جمهوريتهم، وصنع صالح المؤتمر فكان حزبه وحده، لم تكن لديه مشكلة أن يسلم العلَم لعبدربه منصور الهادي والجيش لعبد الملك الحوثي.

لطالما تعامل صالح وعائلته  على أساس أن هذه أشياؤه الخاصة، لا يجوز لأحد منازعته  فيها، ولم يقبل هو أو أحد من عائلته أن يقود المؤتمر، أو أي شخص آخر بدون رعاية العائلة؛ إنها أملاك شخصية كما كان البلد، وهي النقيض لكل ما هو سلوك جمهوري.

كانت فبراير عنواناً لكفاح  شعب يناضل من أجل استعادة روح الجمهورية، مؤمناً بحقه في الحرية والعدالة وبناء دولة المواطنة.

مشكلة فبراير أنها توقفت في ظرف ما عن أن تكون ثورة، ثم صارت إلى أزمة.

ليس ثمة ثورة تسمح للنظام الذي ثارت ضده بالبقاء في الحكم.

التوليفة، التي جاءت بعد فبراير وأدارت الأمور بالطريقة الفاسدة التي شاهدنا، هي صورة مكتملة لنظام علي عبدالله صالح، الذي كان سائداً قبل 2011 في السلطة والمعارضة، وتجسيداً متفاقماً لروح قيمه؛ إنها نتاج الالتفافة الخليجية التي نجحت في احتواء الثورة.

حدّقوا فيها جيداً، إنهم الوجوه نفسها والأحزاب نفسها مع تحويرات وإضافات طفيفة لانتهازيين كانوا يوماً يهتفون مع الثورة، ومع الحراك الجنوبي!

حتى عندما أدارت هذه النخبة ما يفترض أنها ملحمة الكفاح المسلح لاستعادة الجمهورية في مواجهة مليشيا طائفية، تحوَّل الأمر إلى محرقة عبثية، يمارسون فيها القيادة عن بُعد!

الخلاصة: إذا كانت انتفاضة فبراير خطأ فإنها الخطيئة الكاملة لصالح وعائلته.. والأحزاب معه ومن بعده!

مقالات

عاتكة الخزرجي والشعر المكشوف!!

يبقى رمضان شهر المقالات الخفيفة المهضومة، التي تعيدنا إلى الموروث الإبداعي العربي على غرابته بين القرون؛ لأن أهم ما تحققه الطليعة هو اقتياد الرعيل بالقدوة والاهتداء؛ لأن أول الحركات هي من فعل جماعة، وأول الوقود من مستصغر الشرر، أما إذا كانت جمرة فهي ممتدة الاتقاد.

مقالات

أبو الروتي (26)

في اليوم التالي، ذهبت لزيارة كافيتا في شارع الاتحاد، وعند صعودي السلم راح قلبي يخفق بقوة، وكاد يقفز من بين ضلوعي، لحظة أبصرتها أمامي.

مقالات

تحدّيات التغيير في سوريا

من المستبعد وغير الواقعي أن نرى سوريا جديدة بمجرد سقوط نظام آل الأسد، وما أعقب هذا من تبدلات في المشهد السياسي من اعترافات إقليمية ودولية متوالية بالرئاسة والحكومة، ومن ملامح تغيير في الحياة العامة للسوريين عموماً.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.