مقالات
استسقاء الحوثيين واستتباعهم الكربلائي!!
صباح يوم الاثنين الماضي (6 يونيو 2022)، صحونا على أصوات الميكروفات في الجوامع القريبة، والتي على ظهور السيارات والأطقم العسكرية، وهي تجوب الحواري فاتحة أصوات المقرئين والمبتهلين بالطريقة الكربلائية بأسماء "علي والزهراء والحسنين"، لإطفاء ظمأ العطاشى وسقي الزروع.
ومع بداية اليوم الوظيفي، أوقف المسؤولون باصات أمام المؤسسات والوزارات لتحميل الموظفين إلى ساحات معدة سلفاً لصلاة الاستسقاء في الستين والسبعين والجراف وأطراف العاصمة، وهددوا كل من لا يذهب إلى الصلاة بالويل، كما يفعلون في مناسباتهم الدائمة.
في تقاطعات الشوارع، التي مررتُ بها مستقلاً باصاً مكتظاً، شاهدت تجمّعات أطفال المراكز الصيفية وعُقال الحواري ومعهم السكان المذعنين، حاملين ورقا أبيض مكتوبا عليها عبارات دينية يرددونها بعد رجال بملابس شعبية ممسكين بـ"ميكات" وسماعات سوداء كبيرة، فقفز إلى ذهني تلك الصور البائسة التي نقلها في مذكراتهم وسيريهم بعض الشخصيات السياسية للأطفال الذين كانوا يخرجونهم من المكاتب والمعلامات لمرافقة الجنائز إلى المجنَّات والمقابر وهم يرددون، بعد فقيههم، الابتهالات والآيات التي تشفع للميت، مقابل القليل من المال الذي يتقاسمونه مع فقهائهم.
قال لي أحد أقربائي (الدكتور محمد سعيد عبدالله الشيباني) إنه أثناء دراسته في مكتب الأيتام بصنعاء في العام 1963م، كانت أسعد أوقات الطلاب حينما يتم إخراجهم لمرافقة الجنائز إلى مقبرتي "خزيمة" و"ماجل الذمة"- حينما كانت تتمدد في شرق صنعاء- ويتحصلون مقابل ذلك على قليل من المال، وقال: "كنا نتمنى أن يموت كل كبار السن الميسورين في مدينة صنعاء القديمة، لنخرج في جنازتهم من أجل الحصول على قليل من البقش، والهروب من مكتب الأيتام، وعصا المعلم الضرير".
طبعاً لم يهطل المطر على صنعاء في ذلك اليوم الاستسقائي بضجيجه وصخبه ولا في الأيام التالية، وهطلت بدلاً عنه آلاف المنشورات والتعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي (الفيس بوك وتوتير وانستجرام)، التي تسخر من إقدام الحوثيين على هذه الخطوة بطابعها البهرجائي الخرافي، ووجد فيها المعلقون مناسبة كبيرة لمحاكمة هذا الوعي اللزج وخرافته، حتى إن التنمّر السياسي الصارخ صار سمة لردة الفعل هذه، ومنها تذكير سلطة الأمر الواقع أن الغيث لا يمكن أن يهطل من السماء لمجرد رغبة الحاكم الفاسد، الذي نهب المرتبات وتاجر بالسلع وكمم الأفواه، واحتكر الوظيفة، واجتبى الأموال بالباطل من كل شيء يتحرك أو لا يتحرك على الأرض، وأدخل اليمن في أتون حرب طاحنة خدمة لمشروع إقليمي.
ومن الأسئلة الحارقة، في هذا الهطول الأزرق، سؤال الساعة وهو: كيف يمكن لرب رؤوف أن يستجيب لدعوات عبيده الشريرين الذين يحاصرون المدن ويقتلون أهلها وتحصد ألغامهم عشرات الضحايا في خبوت تهامة وأرياف تعز؟!
لكن أكثر التعليقات تهكميّة قالت: إن الحوثيين حاولوا توظيف توقّعات الهيئة العامة للأرصاد بهطول الأمطار، واستبقوها في دعوتهم للصلاة، حتى يعززوا في وعي العامة أنه يستجاب لدعواتهم بحكم صلتهم بالسماء!! أغلب الناس من العطاشى البائسين تمنوا أن لا يهطل الغيث بسبب هذا البهرج حتى لا يكون للحوثيين الفضل في هذه النعمة، كما سيتفضلون في إعلامهم ومنابرهم وأبواقهم المبثوثة في أوساط العامة.
تحويل أيام اليمنيين إلى مناسبات دينية ذات صبغة طائفية واحدة ملامح المرحلة الحوثية، لإعادة إنتاج سلطة متحكمة بمصائر اليمنيين زمنياً (الحكم بالاستبداد)، وروحياً (بمرجعية الولاية)، متكئة في ذلك على إرثين لم يبهتا لقربهما الزمني الأول تاريخي وهو إرث الإمامة المتوكلية التي قسَّمت المجتمع طبقياً بين سادة وعبيد، ونظرت إلى الطبقة الأخيرة التي تنتمي إلى عالم المهن والإنتاج بدونية، وأجبرتها على العمل من أجل طبقة الأسياد المرفّهة التي تحيا بدون عمل، ومع كل ذلك تستأثر بكل خيرات المجتمع، وفي حروبها تستخدم أبناء هذه الطبقات للدفاع عن امتيازاتها التي تحصلت عليها بالحيلة والفساد، ومنها الجبايات التي كانت تفرض على الفلاحين والتجار والمهنيين، وكل ذلك تحت شعارات دينية مضللة، تنسب لنفسها كطبقة أسياد حقها الإلهي والاصطفائي، ليس بحكم اليمنيين فقط وإنما بحكم الكون كله؛ وهذا الأمر يحدث اليوم تماماً وبالعقلية ذاتها، باحتكار الوظيفة في الأنساب السلالية والموالين القريبين، وتحصيل الأموال من كل شيء (ضرائب، جمارك، أوقاف، زكاة، تحسين، تأجير الفضاءات، جبايات على مزارع الدجاج وويتات الماء، وتأمين العمال المؤقتين)، والزج بالأطفال الفقراء في جبهات الحرب، دون أن يكون لهذه الطبقة/ السلطة اي التزامات تجاه المجتمع.
والثاني الاستتباع للرؤية الخمينية في ولاية الفقيه، وتكتيكاتها السياسية الانتهازية، التي تأسست على قاعدة التحالفات المرحلية، قبل أن يتم التخلص من الحلفاء بالتتابع لتنحصر سلطتها لاحقاً في الملالي المتطرفين بقاعدة ليست عريضة من الأتباع الأمنيين المتشددين.. سخرَّت كل إمكانية الدولة النفطية الغنية متعددة الموارد لبناء سلطتها وقبضتها الأمنية والعسكرية، وعملت لأكثرمن أربعين عاماً على تفكيك حلفائها في الثورة، وصفّت الرموز منهم، وتابعت وأقلقت معارضيها في الخارج بواسطة عملائها السريين.
عملت على تصدير مشروعها الثوري إلى دول المحيط، فأنتجت مخالبها الحادة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، هروباً من استحقاقات الداخل الذي يغلي.
طبقة الحكم في إيران أثّرت على حساب جوع مواطنيها، الذين تنقل لنا الأخبار المسربة احتجاجاتهم المتتالية التي تقمع بقسوة، وإن ثروة مرشد الثورة علي خامنئي لوحده -حسب تقديرات محايدة- تجاوزت الخمسين مليار دولار.