مقالات
إطلالة على زمن أبي محمد الحَجَّاج!
يكاد ناقد التاريخ يرى المؤرخين ينظرون إلى الغصن بمعزل عن الشجرة، ويقفون على الشجرة ويرون الغابة، فكلهم يصفون الحَجَّاج بأكبر صفات الطغيان وأشهر صفات السفَّاح، وإلى جانب هذا يصفونه بسعة المعرفة، وحضور البديهة، وفصاحة اللسان وذكاء القلب، وينسبون إليه أعاجيب الأخبار الضاحكة المضحكة، وكأنه أحد المازحين.
رُوي أنه لاقى أعرابياً متنكراً فسأله: ممن الرجل؟ فقال: من موالي قضاعة. قال: ما أخبار الحَجَّاج عندكم؟ قال: أخبار الذئب العقور! قال: وهل أنت ممن يرى هذا؟ قال: نختلف في كل شيء إلاَّ في طغيان الحَجَّاج، وأخذه البريء بالمجرم، وعصفه بالمحق والمبطل.
فقال الحَجَّاج: لعنة الله عليه من أمير.
فأجاب الأعرابي: ما لعن إبليس!
ولما قال هذا، كشف له الحَجَّاج وجهه، فعرفه الأعرابي دون أن يُبدي خوفاً، وإنما اقترب إليه وربَّت على كفيه قائلاً: يا ابن يوسف، المجالس بالأمانة، فاجعل ما سمعته مني دبر أذنيك وتحت قدميك.
فضحك الحَجَّاج من الأعرابي، فأعطاه ثلاثين ألف درهم وودَّعه شاكراً.
فقال الحَجَّاج: لقد ملكتُ بهذا حراً، وحولتُ عدواً إلى صديق، وما أنا ممن يكسبون الأعداء ويضيعون الأصدقاء، ولولا هذه الحكمة لهلكتُ قبل اليوم.
ورُوي عنه أنه استدعى المؤرخين والرواة فقال: كيف تقرأون هذه الآية: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ (بضم الغين). فقالوا: نقرؤها بضم الغين كما أُنزِلت. فقال: ليس في اللغة العربية "فُعلة" (بضم الفاء)، وإنما "فَعلة" (بالفتح)، و"فِعلة" (بالكسر) إذا كان لها هيئة.
قالوا: هو الحق.
قال: وقول الله أليس حقاً؟
قالوا: إن كل ما قاله حق لا يأتيه الباطل.
فقال: أعطوني شاهداً من كلام العرب يطابق الآية.
فروى أحدهم هذا البيت:
ربما تكره النفوس من الأمر
له فُرجة كحل العِقال
(بضم الفاء). فقال الحَجَّاج: أنت أعلم هؤلاء.
ويُروى عنه أنه جزَّأ القرآن، وقسَّمه إلى أنصاف وأرباع وأثمان، وقيل إنه ربَّعه وثمَّنه فقط، وعلى هذا فهو من علماء القراءة ومن علماء اللغة، وهو أطغى الطغاة. كل ما ذُكر وُصف بالطاغية والأطغى إلى عصرنا.
أما قال شوقي في الشريف حسين حين منع الحج:
نيرون إن قيس في باب الطغاة به
مبالغ فيه والحَجَّاج متَّهَم
مع أن الحَجَّاج مجرد موظف ينفذ أغراض الخليفة، ويعمل على ما يريد مأموراً أو غير مأمور إذا كان في عمله ما يسكن فتنة أو يخضع خارجين أو يقمع متمردين.
ولهذا قيل: علم عبد الملك بن مروان أن العراق بلد الشقاق والنفاق، فرماه بالحَجَّاج.
وقيل: إن الحَجَّاج أعدم ثلاثين ألفاً، وسجن ثلاثمائة ألف مدة توليته على العراق.
وكان إذا هاجت منطقة في فارس جيَّشَ العراقيين فقاتلوا حتى ينتصروا، وكان يقتل من تخلَّف عن القتال إذا كان قد تجاوز العشرين عاماً.
ولهذا كان يقول عبد الملك بن مروان: إذا هاجت هائجة في فارس أو الأهواز نرميهم بأبي محمد، يقصد الحَجَّاج، وذلك لأن الحَجَّاج تعوَّد على الجندية تلقائياً، إذ نشأ على الفقر حتى شارك أباه في تعليم الصبية على مرتب نصف معلِّم. إلاَّ أنه كان شهيراً بحسن الخط وصياغة الكلام.
وكان الوالي روح بن زنباع يلاقي شكاوى متظلمين حسنة الخط، فبدا له أن يسأل أحدهم: ها أنت قد قدمت رابع تظلم، فمن ذا يكتب لك هذا؟
قال: معلِّم صبيان يُسمى الحَجَّاج.
فقال: عليَّ به.
فاتخذه روح بن زنباع كاتب الولاية.
وصادف أن كان في الشام حين اختل نظام الجنود، فقال عبد الملك: هل لك في واحد يرد إلى الجند النظام والطاعة والنجاح؟
قال: نعم.
فقال: لدي فقيه ثقفي، لو أراد لحوَّل الصخر ماءً لسرعة حسمه وإرادة حزمه.
فقال: من فورك ابعثه.
فولَّاه عبد الملك بن مروان قائد الجند، فأعادهم إلى الطاعة وإلى سرعة التنفيذ، لأنه كان في التحرك قدوة، فلا يأمر أحداً بفعل شيء إلا شاركه الفعل.
وكان يقول: إذا أمرتَ فلا تقعد فكأنك المأمور والأمير، ولا تصلح رجلاً إلا إذا كنت له مثلاً.
وكانت أقاويله تسير كمقولات وأمثال، لأنه كان واسع الثقافة، غزير مزاولة الكلام.
قال مالك بن دينار: ما رأيت أحداً أسطع حجة وأقوى خصومة حتى يكاد يُقنع بالباطل مثل هذا الثقفي الذي افتتح السند وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم الحَجَّاج بن يوسف الذي أخضع العراق، وهو الذي لا يستكين ولا يلين. كما قال معاوية حين أوصى ابنه يزيد: إذا طلب منك أهل العراق والياً كل يوم فافعل، فإن الرجال كثير، حتى تخبر من تجده صالحاً لقيادتهم.
وحين تمكن الحَجَّاج من استتباب الأمن وتأمين السبل، قالوا: ليس لهذا سابق في سرعة الحسم ومواصلة الجهد بثان حتى يبلغ الأمر مداه.
وكان في كهولته بنفس قوته في ريعان الشباب، فما أجَّل علم يوم إلى الغد، ولا وقع في مأزق لا يجد منه مخرجاً.
وليس هذا تعريفاً بالحَجَّاج، فتاريخه موضوع كتاب أو كتب، لأنه كان يعتبر الكُنية قيمة تشريفية، وهو أول من رأى وجوب تقديمها على الاسم، وتقديم الاسم على اللقب، وعنه أخذ الرواة والنسَّابون.