مقالات
الاحتفال الحقيقي بثورة فبراير إعلانها مشروع إنقاذ لليمن واستعادة الدولة
لا يمكن فصل المشهد اليمني الراهن، بتعقيداته المتراكمة، عن الانقلاب على ثورة فبراير الذي شكّل نقطة تحول في مسار البلاد.
مظاهرات الشارع العدني، اليوم، حالة التململ الشعبي في بقية المحافظات، تفشي الفساد، وعودة المليشيات، ليست سوى انعكاسات مباشرة لذلك الانقلاب الذي قاده نظام صالح بتحالفه مع الحوثي، مستغلًا إخفاق القوى التقليدية التي تصدّرت واجهة الشرعية، لكنها في جوهرها لم تكن جزءًا أصيلًا منها، بل تحولت إلى أداة في أيدي مشاريع الثورة المضادة التي تقودها قوى إقليمية ودولية.
اليوم، يجد اليمن نفسه عند نقطة حرجة، حيث يتصاعد الغضب الشعبي في شكل مظاهرات، وبيانات سياسية، وهجوم واسع على مجلس القيادة الرئاسي عبر مِنصات التواصل، ومطالبات بعودة هادي، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه في دورة من الفشل المتكرر.
هذه اللحظة، بكل ما تحمله من ارتباك، تعيد فبراير إلى المشهد، ليس بوصفها ذكرى عابرة، بل كضرورة سياسية ووطنية، وكخيار أخير لإنقاذ اليمن من مستنقع الفوضى والانهيار.
روح فبراير، التي أطاحت بنظام جثم على صدر اليمن لأكثر من ثلاثة عقود، لم تكن لحظة غضب عابرة، بل مشروع تغيير متجدد، قادر على استعادة الدولة، وإسقاط الانقلاب، وتجاوز عجز القوى السياسية التي أرهقت المشهد بخلافاتها وتبعيّتها.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: بأي وجه يجب أن تعود فبراير اليوم؟ وكيف يمكن استعادة مشروعها وسط هذا التعقيد؟ هذا ما يستحق نقاشًا أعمق في سياق جديد.
-محطات الثورة
لطالما كانت الثورات محطات فاصلة في تاريخ الشعوب، فهي لحظات استثنائية تنفجر فيها التناقضات، لتفتح آفاقًا جديدة للتغيير. فحينما تتزاحم القدرات، ويضيق الأفق عن استيعابها وفق معادلة تحترم الجميع، تأتي الثورة تاريخيا لتكسر ذاك الضيق، وتفتح للشعوب قدرًا واسعًا للتعبير عن الذات، وبناء معادلة مختلفة تستوعب الجميع.
قيام الثورة لا يعني بالضرورة نجاحها بصورة كلية، فالتاريخ يعلمنا أن الثورات لا تسير في خط مستقيم، بل تتعرّض لانتكاسات ومحاولات احتواء من قِبل قوى الثورة المضادة، التي ترى في التغيير تهديدًا لامتيازاتها.
اليمن، كغيره من الدول التي شهدت انتفاضات شعبية، لم يكن بمنأى عن هذه الجدلية التاريخية. ثورة فبراير 2011 لم تكن مجرد لحظة غضب شعبي، بل كانت تعبيرًا عن تراكم طويل من الإحباط السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فجاءت كمحاولة لتأسيس دولة مواطنة حديثة، تنتصر للجمهورية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لكن، كما حدث في ليبيا وسوريا والسودان، واجهت الثورة تحدّيات وجودية، كان أبرزها مشروع الثورة المضادة الذي قاده تحالف "الحوثي وصالح"، ثم دعمته قوى إقليمية ودولية، ما أدى إلى إدخال اليمن في نفق الحرب الداخلية لتقود إلى الوصاية والتفكك.
-الثورة المضادة: إعادة إنتاج الاستبداد بوجوه جديدة
الثورات لا تفشل ذاتيًا، بل يتم إجهاضها حين تتمكن قوى الثورة المضادة من إعادة تنظيم نفسها، واستغلال ثغرات المشروع الثوري، في مقابل تخبّط قوى الثورة، وعدم قدرتها على الثبات على استكمال النضال الثوري.
في اليمن، لم يكن تحالف "الحوثي- صالح" مجرد رد فعل على ثورة فبراير، بل كان إعادة إنتاج للاستبداد بأدوات جديدة.
الحوثيون، كذراع إيديولوجية وعسكرية، قدَّموا أنفسهم كبديل ثوري في البداية، لكنهم سرعان ما كشفوا عن جوهرهم كحركة انقلابية طائفية مدعومة إيرانيًا، هدفها إعادة اليمن إلى زمن الوصاية الخارجية والمشروع الإمامي الاستبدادي.
أما صالح فكان نموذجًا للحاكم الذي لم يقبل الخروج من المشهد إلا بعد أن حرق البلاد بنيران الانتقام، وهي إستراتيجية مألوفة في تاريخ الثورات، حيث غالبًا ما يحاول الحُكام السابقون إظهار الثورة وكأنها خطيئة كبرى عبر نشر الفوضى والدّمار.
وعندما اندلعت الحرب، لم يعد الأمر مجرد صراع داخلي، بل تحوّل إلى صراع إقليمي ودولي، حيث أصبحت اليمن ساحة لتصفية الحسابات بين إيران من جهة، وقوى الخليج من جهة أخرى، مع غياب شبه كامل للإرادة الوطنية المستقلة.
-فبراير كضرورة إنقاذية: نحو ثورة تصحيحية
إذا كان مشروع الثورة المضادة قد فشل في فرض سيطرته الكاملة، فهذا لا يعني أن الثورة نفسها انتصرت، بل إنها ما زالت بحاجة إلى مراجعات جذرية، لتنقية صفوفها واستعادة نقائها الأول.
الثورات الحقيقية لا تكتفي بالإطاحة بالأنظمة، بل تحتاج إلى قيادة واعية تضمن استمرار مشروع التغيير، وتحصّنه من الانحرافات والاختراقات، وأسوأ ما في الثورة تأخّر الحسم، حيث طول الفترة بين الثورة وبناء نموذج جديد مكتمل الأركان، بيئة خصبة لبروز نموذج استبداد جديد، يتكأ على خطاب شعبوي يدغدغ العواطف التي مازالت متأثرة بالثورة.
في السياق اليمني، يبدو واضحًا أن ثورة فبراير لم تُهزم، لكنها تعرّضت لمحاولات تحييد وإفراغ من مضمونها، سواء عبر قوى سياسية ركبت الموجة، ثم تحوّلت إلى جزء من الفساد والقذارة السياسية، أو عبر النّخب التي تخلّت عن مسؤوليتها التاريخية وتركت المشهد لمراكز القوى التقليدية.
لذا، فإن التحدّي الأكبر اليوم ليس مجرد مقاومة الحوثي، بل إعادة بناء مشروع الثورة على أسس أكثر صلابة، بحيث يكون قادرًا على استيعاب دروس الماضي وتجاوز أخطائه.
-فبراير.. ديناميكية الثورة ومشروع تصحيح المسار
ثورة فبراير اليمنية كانت حركة ديناميكية عابرة للجمود السياسي والاجتماعي، مشروعاً متجدداً قادرًا على تصحيح مسار الدولة والمجتمع.
لم تكن فبراير فعلاً لحظياً أو انتفاضة عابرة، بل مشروع يتسم بمرونة فريدة وقدرة على التكيّف مع تعقيدات الواقع، مع الحفاظ على جوهره القائم على الحرية والعدالة.
هي ثورة وُلدت من رحم معاناة طويلة، لكنها امتلكت رؤية تجاوزت إسقاط الأنظمة الفاسدة، لتؤسس لفكرة أعمق: بناء دولة حديثة تتسع للجميع، وتقوم على أسس المواطنة والمساواة.
ديناميكية فبراير تتجلى في قدرتها على استيعاب التنوّع اليمني، وفي سعيها الدائم لتصحيح الأخطاء وإعادة تعريف الأولويات بما يتناسب مع احتياجات اللحظة.
إنها مشروع يرفض الجمود، ويرى في كل تحدٍ فرصةً للتجديد، وفي كل انكسار حافزاً لاستعادة المسار.
فبراير ليست مجرد لحظة تاريخية، بل فكرة حيّة تتنفس في كل قلب يمني يتطلّع لوطنٍ أكثر عدلًا وإنسانية.
-نحو جبهة وطنية جديدة: الثورة بلا إقصاء ولكن بحزم
الثورات الناجحة لا تقوم على الإقصاء، لكنها، في الوقت ذاته، لا يمكن أن تستمر إذا تسللت إليها القوى الانتهازية.
فبراير اليوم ليس ملكًا لفئة سياسية محددة، بل هو مشروع وطني يتطلب إعادة تعريفه كحركة إنقاذ قادرة على تقديم البديل الحقيقي، بعيدًا عن المصادرات الأيديولوجية أو المصالح الحزبية الضيّقة.
وهذا يفرض بناء جبهة ثورية وطنية واسعة، تضم القوى المؤمنة بالجمهورية والدولة المدنية، دون أن تقع في فخ الانتقام أو الصراعات البينية. فالتاريخ يعلمنا أن الثورات التي تتحوّل إلى معارك داخلية تنهار سريعًا، بينما تلك التي تنجح في توحيد صفوفها خلف مشروع وطني جامع تستطيع الصمود والانتصار.
- فبراير كحتمية تاريخية
رغم كل الانتكاسات، تبقى ثورة فبراير ضرورة تاريخية، ليس فقط لأنها أطاحت بنظام استبدادي، بل لأنها ما زالت تمثل الأمل الوحيد في استعادة الدولة، وإنهاء مشاريع الهيمنة الداخلية والخارجية.
لا يمكن للثورة المضادة أن تستمر إلى الأبد؛ لأن إرادة الشعوب أقوى من أي مخططات استبدادية أو وصاية خارجية.
لكن نجاح الثورة لا يعتمد فقط على العوامل الموضوعية، بل يتطلب وعيًا ذاتيًا وإرادة حقيقية لإعادة بناء المشروع الوطني، بعيدًا عن الشوائب والانتهازيين.
فبراير ليست مجرد ذكرى، بل هي معركة مستمرة، تحتاج إلى رجال ونخب قادرة على القيادة، دون تكرار أخطاء الماضي أو الارتهان لأي قوة خارجية.