مقالات
الاستعراض اللغوي والمعرفي
الكثير من الكتابات تشدنا إليها وتدعونا إلى الغَوص في أعماقها، وأساليبها المتباينة والمتنوّعة، وقليل من الكُتاب الذين يستطيعون الإمساك بزمام الأمور، وشَد انتباه القارئ من أول لحظة بالفطرة والثقافة الموسوعيّة، والإبهار المعرفي عن طريق الإبهار اللغوي، واللغة المكثّفة المُوحِية، وتنوُّع أساليب العَرض، ومناقشة قضايا جوهرية تتّصل بالوجود الإنساني، وإشكالياته المُعاصرة.
هناك أسماء بذاتها كان لها الفَضل في استعراض قضايا شَائكة بلغة أدبية مُمتعة؛ مثل القضايا السياسية، والكُتب التي أفْرَدها محمد حسنين هيكل طوال مسيرته مع الكتابة والتاريخ والتحليل السياسي بأسلوب غاية في المُتعة الروحية واللغوية، التي تجعلك مشدود الأعصاب والمشاعر والعَقل، فتحسّ بروحك ترفرف من جمال ومُتعة ما تَقرأ، والفائدة المعرفية التي تجتاحك من أعلى رأسك حتى أخمص قدميك.
نحن في اليمن نفتقد إلى كاتب بهذا الحَجم، وهذا الألَق، وهذا الإلهَام السياسي، وبهذا الإشراق اللغوي والمُتعة الأدبية والتجرُبة الكتابية المُذهلة.
كانت كتابات محمد حسنين تعمل على تحريك عقل القارئ الشغوف، وتمتاز بإثارة التساؤلات الذكيّة، ولعلِّي هنا أشير إلى مقابلة أجريتها مع المفكِّر اليمني الذي كان ينتمي للتيار الإسلامي، عبد الرحمن طيِّب بَعْكر، حيث قال إنه كان عندما يريد تحريك دماغه في رأسه يتوجّه مباشرة إلى كُتب وكتابات محمد حسنين هيكل.
ولعلَّ أهم مقالاته، التي كتبها في آخر رحلته مع الكتابة وأكثرها مُتعة، هو ما نَشره في مجلة، أو صحيفة "وِجْهات نَظر"، التي كانت تصل بانتظام إلى اليمن، ثم أعقب كل تلك المقالات -التي حشدت تجربته مع السياسة والسياسيين من مختلف دول العالم، ورحلاته الخطيرة والعادية- مقالٌ مطولٌ نُشر في كثير من الصحف العربية، وأغرى الكثير من صحف الأنظمة العربية بإعادة نشره؛ بعنوان "أستئذن بالانصراف"، وكان يقصد اعتزال الكتابة الصحفية عموما، ولقد شكَّل ذلك صدمة لكل محبيه وقُرائه في الوطن العربي، الذين أدمنوا كتاباته العَمِيقة، وسَرْدَه المُمتع لكواليس السياسة العالمية، وأبرز شخصياتها التي رَسمت ما وصلنا إليه إن خيرا أو شرا.
وستبقى كتابات محمد حسنين هيكل ساقية ومنهلا عظيما ونبعا صافيا، ومدرسة لكل كاتب أو قارئ يود أن يصل إلى الكمال والجمال العقلي والمعرفي والكتابي.
الكتابة ليست استعراضًا للعضلات، لكن للأفكار والقِيم والأخلاق والتاريخ، لطالما وَجد البعض أنفسَهم خارج ميدان المعرفة بانسياقهم خلف الاستعراض اللغوي، وتجنّب المعرفي والفكري والثقافي والتاريخي.
أحداث التاريخ مترابطة، والكاتب البارع والكثير هو الذي يستطيع جعل أحداث التاريخ ومعطياته ميدانًا خصبًا للتنوير.
لم يكن محمد حسنين هيكل وليد زمنٍ بذاته، ولكنه كان وليدًا للأزمنة كلِها، ووليدًا لبيئة خصبة جمعت عشرات بل ومئات المواهب الفذّة، والمعالم التي أصبحت حُجة في مصر والوطن العربي، ولذلك نجد هيكل نموذجّا معاصرّا لعباس محمود العقاد، وغيره.
الكتابات المعقّدة والمليئة بالمُصطلحات الغامضة تجعل من الصعب فهم ما يحيط بنا بسلاسة وبساطة، وخاصة وأن القُراء ليسوا من مستوى معرفي واحد، ولذلك من أهم وظائف ومهام الكاتب الذّكي الارتقاء بعقلية القارئ إلى مصافِ العارفين.
الكاتب الذّكي هو ابن القراءة الذكيّة، وهو ابن الثقافة الأكثر ذكاءً، الكتابة ليست تحصيل حاصل، ولا يجب أن يكون الكاتب حاطب ليل؛ لأن الصباح قريب.
لماذا ليس في اليمن كُتَّابٌ بمستوى يَقترب من هيكل ؤأقلّ منه؛ لأن القارئ اليمني الذّكي غائب، أو مغيّب ومتسرّع، ولقد أفسدت العوالم الافتراضية مُتعة الكتابة، وألغت قداسة الكتابة، وقداسة الكاتب؛ ولأن الكاتب في اليمن مقموع، ومُكمّم، واليوم أضحى عاجزًا حتى عن الكلام.
الهامش الديموقراطي الزائف، الذي كان قبل 2011م، تم استبداله بطغيان وجهل أعمى يعجز فيه الكاتب عن كتابةِ سطرٍ حرٍ، أو جملةٍ حرةٍ، أو رفع رايةِ بلادِه المغتصبةِ.