مقالات

الإلحاد اليمني.. كمحاولة لإفقار الوجود

23/08/2024, 06:56:33

لربما يكون من الظريف، تخصيص القول بالحديث عن " إلحاد يمني" ذلك أنّ فكرة الإلحاد؛ تُشير لمعنى كوني لا يصح ربطه بأي جغرافيا. غير أن بمقدورنا الحديث عن الفكرة وعلاقتها بواقع الحياة اليمنية كما هي عليه في هذه اللحظة من تاريخ الشعب. 

بشكل عام، يُمكن القول: إن فكرة "الإلحاد" تحمل معها نزوع ضمني يُجرد الحياة من ثراءها الكبير. ذلك أنّ الدعوة لنفي وجود أي إمتداد للحياة خارج ما هو معلوم ومرئي ومحسوس. هو في جوهره فكرة مُفقرة للوجود البشري. إنّك حين تزعم أن الحياة محدودة بما تعلمه، فأنت بذلك تضع حواجز للعقل الإنساني وتُقلص المساحات المفتوحة أمامه. 

الإلحاد، هو إعتداء على المجهول، موقف لا يحترم ما لا يعلم. وهو بذلك يفتقد للتهذيب أمام الوجود الواسع. إنّه لا يعترف باللغُز مع كونه يدّعي قرابة بالعلم ويُحاول إظهار تلازُمه مع العقل وبأنّه يسعى للتوصل لأفضل تفسير ممكن لجوهر الحياة. هذا التضاد بين دوافع الإلحاد وبين طباعه وسلوكياته، هو نوع من المفارقة الغريبة والعناد العقلي إزاء ما يتطلبه الموقف من إقرار بضآلة ما نعلم مُقابل ما لم نتمكن من تفسيره بعد. 

لعلّ من الصفات المتماثلة بين الإلحاد والتدين التقليدي المتشدد، هو أنّ كلا الطريقان؛ يفضيان لحالة من الجدب وتحويل الحياة لمساحات صامتة وكئيبة. كلاهما موقفان يقطعان الصلة بين الإنسان وبين الوجود الحي. ذلك أن التدين المتشدد؛ يُبالغ في تكثيف القيود الخانقة للعقل الإنسان. والإلحاد _ في جوهره_ ؛ يُجرد الإنسان من قواه الخفية ويحصره في حدود رياضية وحسابات كمية ميتة. 

منذ أن بدأ الإنسان في محاولته استكشاف وجوده، ظلّ الإلحاد حبيس مساحة صغيرة من مجمل رؤى العالم. صحيح أنّ الحيرة في تفسير الوجود كانت وما تزال منطلق لكل الكشوفات في عوالم العقل والنجاح في تبديد كثير من ظلمات الوعي وصولًا لسيطرة متقدمة على الطبيعة. غير أن الإلحاد القطعي، أي الموقف الحاسم في نفي وجود أي قوة كامنة ومُحركة للعالم، هو ليس حيرة فعّالة؛ بل موقف مُتعجّل،  يُغلق الباب أمام كشوفات هائلة ومحتملة تقع خارج منطقة الوعي حتى اللحظة. 

فلسفيًا، يصعُب تلخيص الرؤى المنحازة لصالح البعد الإلهي للوجود. حتى على المستوى العلمي، هناك إقرار شبه كلي، أنّ الفكرة الجذرية للعلم لا بد أن تستند على ميتافيريقا أولية، وعليه فهي ليست منقطعة تمامًا عن الفكرة الإلهية. بل تكاد تتخذ منها منطلقًا خفيًا لمواصلة النشاط العلمي بغية رفع الحجب الكثيفة على هذا الوجود الغامض. 

أخيرًا: لا أحد يملك الحق بوضع حدود لما يجب مناقشته، فكل نقاش هو جهد طيب لإزاحة الضباب والوصول لما يشبه وضوح مبدئي حول المنطقة التي تشتبك فيها الرؤى والحدود الممكنة لكل الأطراف. غير أن الجدل الحاصل في الساحة اليمنية يبدو غارقًا في أزمان سحيقة؛ لكأننا في العهود الأغريقية. وهذا التأخر يكشف الدرجة التي يمكث فيها العقل الثقافي اليمني وعجزه عن رفع مستوى نقاشاته. باختصار، ما نزال عالقون في الأسس. ففي الوقت الذي يخوض فيه العالم نقاشات حول علوم الأعصاب وميكانيكا الكم والعلاقة بين البيولوجيا والسلوك البشري. نغرق نحن في صراعات لفظانية، ونحتاج زمن لتحرير العقل الثقافي من هذه البدايات المتعثرة. نحتاج للدفع بالجدال نحو مصافات متقدمة. ولا يبدو هذا ممكنًا في ظل وضع عام يُسهم في خلط كل شيء، ومعه تضيع الوجهة قبل أن نبدأ. 

الخلاصة: 

إذا كان الإلحاد بشكل عام، هو موقف تفسيري أقلّ جاذبية من باقي المواقف الكونية تجاه ماهية الوجود. فإنه في الفضاء اليمني يزداد ضآلة بحيث يبدو عديم الإغراء بالنسبة للقطاع الأعظم من اليمنيين. ليس ذلك لأن اليمن مجتمع يتجذّر الإيمان فيهم بشكل أكبر من باقي الشعوب؛ لكن الظرف الإجتماعي يجعل من أي موقف مضاد للإيمان أو معادي لله؛ أقل إمكانية في التحقق. ذلك أن الله ليس مجرد قناعات عقلية وروحية خاصة؛ بل أهم وأقوى مصدر للأمان الوجودي لدى شعب مكشوف بلا ضمانات للعيش ولا حياة مرتبة ولا بدائل مُطمئنة للناس. لهذا فاليمني، متدين وغير متدين، ينظر للإلحاد بسخرية أكثر مما يأخذه بجدّية؛ بل ولا يكترث لجدوى نقاشات كهذه؛ لكأن الله وجود محسوم ونهائي وثابت غير قابل للتفاوض حوله أو إعادة التفكير فيه. أتحدث عن مجمل الشعب اليمني، أي الأغلبية الساحقة فيه. ما عدا ذلك، فالنخبة المثقفة، أو الموقف الثقافي، فالنقاش الوجودي أمر طبيعي، مثل كل العقول المهمومة بهذه المنطقة من البحث والتفكير. 

يبدو لي أن الجدل الوجودي في اليمن، أشبه بصراعات تائهين يحاولون الهروب من أنفسهم، من واقعهم المسدود، نحو مواضيع تنفيسية، أكثر من كونه نشاط ثقافي وفكري متناغم مع التلطعات العقلية للجماهير وحتى النخبة. لكأننا أمام مجاميع بشرية، يائسة، لا تدري كيف تتجاوز واقعها المُحبط، فتموج في كل الاتجاهات ولا تجد ما ترسو عليه، سوى اللهو والسخرية وربما الشعور الكبير بالضياع وفقدان الأمل بالغد. 

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.