مقالات

اليمن: ثلاثة عقود من تحالفات المصالح والفشل

23/08/2025, 07:02:45

في منتصف السبعينيات، كان اليمن على أعتاب تحولات عميقة بقيادة الرئيس إبراهيم الحمدي، الذي سعى لبناء دولة مؤسسات حديثة.

لكن هذا المشروع توقف باغتياله المفاجئ عام 1977. وبعد أقل من عام، ومع تولي علي عبدالله صالح الحكم عام 1978، اتخذت البلاد مسارًا مختلفًا تميز بتركيز السلطة في يد فرد واحد، ونسج شبكة واسعة من التحالفات ضمنت بقاءه، لكنها قوضت فكرة الدولة وأجهضت إمكاناتها. منذ ذلك الحين، بدأ اليمن ينزلق تدريجيًا من حلم الدولة الحديثة إلى نموذج للدولة الفاشلة.

لم يكن صالح وحده في هذا المسار، فقد شكلت سنوات حكمه الطويلة مسرحًا لتحالف معقد ضم العسكر، والمشايخ، ورجال الدين، ورجال الأعمال المستفيدين من الفساد، بدعم إقليمي مباشر تقوده السعودية. جاء هذا التحالف في سياق الحرب الباردة، حيث استُخدم اليمن كأداة لمواجهة المد الاشتراكي والقومي.

لكن ما جمع هذه الأطراف لم يكن رؤية لبناء الدولة، بل التزاحم على النفوذ وتقاسم المصالح.

أدار صالح هذه الشبكة بسياسة ممنهجة لشراء الولاءات، حيث تحول الجيش إلى أداة لحماية النظام بدلًا من الدولة، وضمن ولاء المشايخ عبر توزيع الامتيازات، بينما قدم رجال الدين غطاء أيديولوجيًا لمواجهة الخصوم، لا سيما الاشتراكيين في الجنوب. أما الثروة المستغلة، الناتجة عن الاحتكار والعقود الممنوحة بالمحاباة، فقد غذت نمو طبقة رجال الأعمال المرتبطين بالنظام.

وفي هذا السياق، لعبت السعودية دورًا محوريًا، حيث وجهت دعمها المالي والسياسي لتعزيز هذا النظام الهش، ليس فقط لضمان استمرار نفوذها في اليمن، بل للحفاظ على دولة ضعيفة لا تشكل تهديدًا لحساباتها الإقليمية.

هذا الدعم، الذي شمل تمويل النظام والقوى القبلية والدينية المتحالفة معه، ساهم في إدامة حالة التفكك ومنع أي محاولة جادة لبناء دولة قوية.

وانعكس هذا الواقع على مختلف مناحي الحياة. اقتصاديًا، توزع الريع النفطي بين أجنحة السلطة على شكل امتيازات ومناطق نفوذ إقطاعية، تاركًا خزينة الدولة شحيحة وعاجزة عن تلبية احتياجات بلد سريع النمو السكاني. ارتفعت معدلات الفقر والبطالة، واتسع عجز الموازنة، مما أدى إلى انهيار قيمة الريال من حوالي 4.5 مقابل الدولار في أواخر السبعينيات إلى أكثر من 250 ريالًا في أواخر عهد صالح. ولم يقتصر التدهور على الاقتصاد، بل امتد إلى المشهد السياسي، حيث تركزت كل السلطات في يد الرئيس، وتحول البرلمان إلى أداة للتصديق، وخضع القضاء للتسييس المباشر، حتى إن صالح تولى رئاسة مجلس القضاء الأعلى إلى جانب السلطة التنفيذية.

على الصعيد الاجتماعي، ضعفت اللحمة الوطنية، وتصاعدت النزعات المناطقية والمذهبية، فعاد اليمن إلى دائرة الصراعات الداخلية، مثل الحروب في صعدة والتوترات بين الشمال والجنوب. في التعليم، ظلت معدلات الأمية من بين الأعلى في المنطقة، وتراجعت جودة المؤسسات التعليمية.

وفي الصحة، سجلت اليمن معدلات مرتفعة لوفيات الأمهات والأطفال، وبقيت المستشفيات عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية، حتى لمنتسبي النظام، إذ كان صالح نفسه يتلقى العلاج في الخارج، وتكفلت السعودية بعلاجه بعد إصابته في حادثة مسجد الرئاسة عام 2011.

والأخطر من ذلك كان تنافر أجنحة السلطة نفسها، فقد عمل كل جناح كأنه "دولة مستقلة"، بوزرائه، وموازنته، وألويته العسكرية، وحتى سجونه الخاصة. لم يكن الجيش مؤسسة وطنية موحدة، بل فسيفساء من الألوية الموزعة ولاءاتها بين القصر الرئاسي والقوى القبلية والعسكرية. هكذا وُلدت دولة هشة، لا يجمع أجنحتها سوى تقاسم النفوذ والغنائم.

لم تكن هذه الأوضاع مجرد انطباعات محلية، فقد أدرج "مؤشر الدول الفاشلة" الصادر عن صندوق السلام اليمن ضمن قائمة الدول الأكثر هشاشة منذ 2006، وبحلول 2010 صُنف بين أسوأ عشر دول عالميًا. وحذر البنك الدولي مرارًا من تدهور الاقتصاد وضعف استدامة المالية العامة، بينما أشارت منظمة الشفافية الدولية إلى تفشي الفساد في كافة مفاصل الدولة، حيث احتل اليمن مراكز متدنية في مؤشراتها.

يتضح إذًا أن الفشل لم يكن نتيجة أزمة عابرة، بل ثمرة تراكمات ممنهجة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود. لم تكن هناك دولة مؤسسات بقدر ما كانت شبكة مصالح متشابكة أعادت إنتاج الفساد وكرسته.

استمرت هذه الشبكة ما دام الشركاء راضين عن تقاسم النفوذ، لكنها كانت مهيأة للانهيار عند أول هزة كبيرة. وعندما برز الخلاف حول توريث السلطة لنجل الرئيس، انكشفت هشاشة هذه البنية.

تبين أن الاستقرار الذي عاشته البلاد لعقود كان زائفًا، قائمًا على موازنة المصالح لا على أسس دولة حقيقية. ومع تفكك منظومة الحكم، انقسمت المؤسسات بين الأجنحة المتصارعة، فصار للجيش أكثر من قيادة، وللأمن أكثر من جهاز، وحتى المرجعيات القبلية والدينية تناسلت لتخدم ولاءات متباينة.

قد يبدو أن عام 2011 كان لحظة السقوط، لكن التأمل في المشهد يكشف أن ما انهار لم يكن دولة راسخة، بل جدارًا هشًا ظل متصدعًا لعقود حتى كشف اهتزاز واحد حقيقته.

لعل تاريخ اليمن يعلمنا أن الاستقرار القائم على تقاسم المصالح لا يصمد، حتى بدعم إقليمي كبير، وأن بناء الدولة يظل مرهونًا بمؤسسات راسخة وشفافة، بعيدة عن الفساد وتزاحم النفوذ.

مقالات

خوف الخوف

يشن الحوثيون حملة اختطافات ضد قيادة المؤتمر في صنعاء، بعد أن أعلن الحزب تخليه عن إقامة أي فعالية بمناسبة ذكرى تأسيسه. نحن أمام صورة مكثفة لجوهر العلاقة التي تقيمها السلالة مع اليمنيين: علاقة قائمة على الارتياب الشامل، ورؤية كل طرف يمني حتى الأكثر إذعاناً كعدو متأهب.

مقالات

ديوان "شعر يهود اليمن"

يقع الديوان في مجلدين بعنوان: ديوان «شعر يهود اليمن»: سالم الشبزي، داود سعديا، حسن التعزي، هارون الصعدي، يوسف بن إسرائيل النهيكي، وآخرون. نقله عن الحرف العبري وقدَّم له عبد الكريم المذحجي.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.