مقالات

التاريخ وهو يكرر نفسه

29/04/2025, 15:11:27

روى ابن سعد في طبقاته خمسة مواقف، واقف فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفراداً في منتهى الغباء، وكان كُلَّما فطن إلى غباء إضافي في الغبي يستغرب فكرة الغباء في الناس، وما لقى غبياً تحدّث إليه إلاَّ وختم موقفه معه قائلاً: "سبحان الله إنَّ خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد"، وهذا القول من البراهين الكثيرة على دهاء عمرو بن العاص، وسرعة بديهته، وتقديره عواقب الأمور متى اتصف بأنَّه "ولاَّج فرَّاج"، لا يقف على باب غضبه، وإنْ يلجها مدركاً مخرجه قبل الدّخول، حتى إنه قال عن نفسه: "ما دخلتُ باباً ولا أعرف مخرجاً يُفضي منه إلى البراح".

 وعندما ظهر الإسلام كان أقل رؤوس قريش عداوة للنبوة، وإن كان من المنتفعين بالاحتكار القرشي لكل المصالح، إلا أنَّ بيته (بني سهم) كان أقل انتفاعاً من بني هاشم وأمية وبني مخزوم؛ لهذا كان من الطبقة العليا ولا يبعد عن الطبقة الوسطى.

فبعد معركتي بدر وأحد أقبل عمرو بن العاص إلى المدينة مهاجراً، وسُّرَّ الرسول وصحابته دخول عمرو بالإسلام؛ لأنه سديد الرأي بصير بالأمور، كأنه من الساسة المعجونين بالسياسة، وكانت النبوة تُؤسس السياسة المنقادة للدِّين.

وروي عنه أنه قال: "ليس من هذا الدين مفر فإنَّ هذا زمنه، ومن الخير أنْ ننال نصيبنا منه، لهذا كان عمرو من أشهر رجال المشورة في الغزوات، وفي طبائع الأنظمة المجاورة في مصر والعراق والشام والروم وفارس؛ لأنَّه كان جواب آفاق وراء الأسفار، وكان حاد الألفاظ بكل مقوله، سريع الخاطر إلى استفهام الظاهرة وأسبابها، وقيل إنَّه كان يعلم أولاده 'مجلة لقمان' التي حشدت أخبار الملوك والأوائل وأساطير الشعوب، وتقلُّب أحوال الأمم، وكان يشبهه في الرغبة إلى التثقف النظر بن الحارث وكعب بن زهير، وإنْ كان ابن العاص لا يرى نفسه في مستوى كعب بن زهير في الشعر إلاَّ أنه كانت لأبياته قوة الانتشار؛ لأنه يقولها عن الحدث الحسَّاس، وعن القضية الشاغلة كقصيدته في حرب الفُجَّار ومقطوعته في مقاطعة قريش بني هاشم، وفي علويته التي أغاض بها معاوية، وبالأخص قوله:
علي التبر والذهب المصفى
     وباقي الناس كلهم ترابُ

قال حجَّان العرقي: بما في الناس معاوية؟.. فقال: وأبو سفيان.. فذلك المرتضى لولا أنَّ لنا إراباً قد يحول دونها..
قام عمرو بفتح أهم الأقطار وهي مصر التي تهيب فتحها من اشتهروا بالشجاعة أكثر من عمرو، وقبل عمرو في محبة هذه المهمة فافتتح مصر فتحاً شبه سلمي، فما لاقى مقاومة عنيفة في أي مكان؛ لأنَّه كان يستعمل المناورة والمداورة، ثم المراسلة والمساجلة قبل التحام السلاح فقيل إنَّه كان يغزو بالرأي قبل أن يحث الخيل، ولما أتم فتح مصر تولَّى عليها أطول مُدة خَبِر فيها ذلك الشعب الخيِّر، وتلك الأرض المنبسطة تحت انسراح النيل، فرأى في هذه الأرض العريضة الوطيئة أعظم المواسم وأكثر الخيرات؛ لأنَّها تغل وحدها ما تغل شعوب، وكان أكثر ما عُرفت به هو الذرة والفول والبصل، وقيل إن الكوز من ذرتها كقامة الوليد العظيم، والكوز التي نسميها 'السبولة' أو السنبلة، ولعل تسميتها في مصر 'بالكوز' منتزعة من طولها وعرضها، كتب عن مصر بأنَّ طولها وعرضها شهر، وبأنها ميمونة الغدوات والروحات، وإنه يشتقها نهر عظيم يأتي من عشرين أرضاً وينبوعاً ورافداً، ويصب في السودان أقله، وينساق إلى مصر أكثره.

ووصف أهل مصر بلطف السجايا، وحسن الطباع ولؤم المكيدة، كما وصف أرضها بأن نيلها عجب وأرضها ذهب، ونساؤها عنب (وقيل لعب)..
قال ابن أبي الحديد: "إن عمرو قال 'عنب'؛ لأنه أسهل الفواكه مقطفاً، وقيل إنه زاد في الوقت قائلاً: "ورجالها مع من غلب".. ولكن هذه الصفة تنطبق على كل الشعوب، فإنَّ كل قوة غالبة تغلب كل شعب إلى أن يملك قوة الغالب، عندما أعلن علي في حرب صفين المبارزة بينه وبين معاوية قال ابن العاص: لقد انصف الرجل فإلى متى تقتتلان؟
قال معاوية: أنصفت الرجل وما أنصفتني يا ابن العاص قال: والله ما أدري هل أنت شجاع أم جبان، فرد عليه ببيت من شعر عمرو:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة
     وإن لم تكن لي فرصة فجبان

 قال ابن العاص: قصدت بهذا شجاعة السياسي، وما ينطبق قولي على ابن أبي طالب؛ لأنه يواجه السيوف حاسراً كاشفاً الصدر: وذات يوم ورد إلى الشام من العراق أعرابي تمَّاريبيع التمر، ولما وصل باب توما قال له شامي: ها أنا معك حتى تحل حمل تمورك، وتأخذ عناق البعير وتسلمه إلى الأعرابي ولن أسلمه إليك؟ قال: لأن هذا بعيري الذي ضاع مني منذ أربعة أهلة، قال الاعرابي: أنا أملكه من سبع سنين ولي من فصيله خمسون ظهراً، وكان يلاحظ الشامي تضاحك الاعرابي، ولما أنزل الاعرابي حمولة التمر وقبض ثمنها استعان الشامي بصحبه فأحاطوا بالأعرابي والبعير، فقال الأعرابي: صِف لي بعيرك وعلاماته؟ فوصفها له إلى نبته هادلة جوار النحر قال تاجر التمور: ارجعوا إلى أمير المؤمنين بدلاً من هذا اللحاد، قال الأعرابي: وأين أمير المؤمنين، قالوا إنه في البحصة -أي أحد منتزهات دمشق- قال الأعرابي: لا، إن أمير المؤمنين في الكوفة، ولكنِّي أقبل في كل بلد أهله، فلنحتكم إلى معاوية. ولما وصل الاعرابي والدمشقيون إلى معاوية قال الأعرابي بصوت عالٍ: هل لي يا معاوية أن أسر إليك..؟ قال: تفضل، فهمس إليه إنَّ هذه ناقة وليست بعيراً، وعلى هذا بطلت الدعوى لخلافة المدّعى فيه، فهمس معاوية إلى ابن العاص أن يتقصَّى أعضاء البعير حتى يصل إلى حقيقة فصيله. فعاد ابن العاص وهو يضحك قال: أيا معاوية أما لاحظت المبيعرية؟ قال: لاحظتها. قال أليست علامة الناقة؟ قال معاوية: ما خبرت هذا. فقال: هل يقبل أهل العراق بيعتك وأنت لا تفرق بين الناقة والجمل؟ قال: عليك يا ابن العاص الخروج من المأزق. فدنى ابن العاص من الأعرابي فقال له: كم قيمة بعيرك طاويا ومُخفياً، حقيقة جنسه، قال: أربعمائة درهم. قال: اسكت عن ما عدا البعير، وخذ خمسين ألف درهم. فقبل الأعرابي وأعطاه معاوية خمسين الف درهم موصياً إياه قائلاً: إذا لقيت أمامك ابن أبي طالب فابلغه عني: "أني أجيِّش إليه أربعين ألفاً من الرجال ليس فيهم من يميِّز الناقة من البعير. فقال الأعرابي: إنَّ جيشاً من هذا الغباء لا ينصر حقاً ولا يخذل باطلاً، إلاَّ أنَّ الحرب ذكاء ومن لم يعرف غيرها لا يعرفها، وسأبشِّر ابن أبي طالب بما أنت فيه، وكيف تحكم بالإرضاء والإغضاء، وهو يحكم بالمجاهرة والعلن..!

بعد موت عُمر بن الخطَّاب، تسابق أقارب عثمان إلى المناصب الأرقى والأجدى، فأشاروا عليه بتولية عبدالله بن أبي السرح على مصر دون أن ينكر أحد أنَّ ابن أبي السرح لا يسد مكان ابن العاص، بل قال مروان بن الحكم: إنَّ ابن النابغة لا يداني ابن أُبي السرح، قال عثمان ما سمعت من يلهج على ابن العاص بهذا اللقب ما أحس عيباً في كون أمه مغنية، فلُقب بابن النابغة، ولم يشتهر هذا اللقب. ومهما يكن فإنَّ أول خطأ ارتكبه عثمان هو عزل الكفء بالقريب غير الكفء،  فرحل عمرو إلى مزرعتين له بفلسطين قال ابن العاص -كما رواه الطبري- كنت أخرج في كل يوم طرق السفر، والى شِعاب الرّعاة فلا يفوتني مسافر أو راعٍ أو راعية أو حاطب أو حاطبة إلا وقد ملأت قلبه غيظاً على عثمان. ويوم بلغه مقتل عثمان، قال: أنا أبو محمد إذا رأيت النبيتة على الجلد فلا أنقطع عن حكِّها حتى أدميها. قال البلاذري: إنَّ أغلب الثوار على عثمان من مصر وفلسطين وهذا من دفع عمرو بن العاص الذي أججها هنا وهو هناك. وقالت السيدة نائلة بنت القرافصاء زوجة عثمان: طلعت بمشعل من عودين إلى سطح الدار أتقرأ الوجوه المحيطة بها، فما رأيت وجهاً من قريش، وإنَّما من غمار الأصقاع. وقال الطبري: استدعى عمرو أولاده بعد مقتل عثمان، وبدء نزاع معاوية وعلي، فقال: ما تروني فاعلاً؟.. قال ابنه محمد: أنت يا أبتي ناب من أنياب العرب فاحضر المعرَّة تجد لك مكانا فيها، فإن الأقصى يقصيك.
وقال ابنه عبدالله الزاهد: أرى أن تلزم بيتك ولا تخرج إلاَّ مدعواً. وقال ابنه سعيد: أرى أنْ تستطلع الأمور حتى تتبين مكانك الأنسب بين الخصمين، وتخرج خليفة لا تابعاً خليفة، فأنت من أنت.
قال عمرو: إنَّ ابن أبي طالب ليس كفؤاً ولا يحتاج إليَّ، أما معاوية فسوف يراني عونه وملاذه، وأراني متجهاً إليه منذ الغد. إذاً هل كانت عبقرية عمرو موازنة لطموحه؟ لقد اقتصر على الرجوع إلى ولاية مصر.
قيل ذلك الذكاء كان قاصراً على الطموح الأدنى؟..
لقد عاد إلى ولاية مصر، ولم يتجاوز فيها عامين حتى أجاب نداء ربه بعد أنْ قُتل علي، واستقرَّت الأمور لمعاوية، فكان حظ عمرو أدنى لا يوزاي نبوغه السياسي ورجولته المحتنكة.

مقالات

قيادة منذورة للفشل

التفاصيل، التي أحيطت بتشكيل مجلس الثمانية بقيادة رشاد العليمي في أبريل 2022، كانت من بدايتها غير قابلة للحلول على الأرض.

مقالات

أطماع خليجية ساذجة وصرخات حوثية مؤجلة!

في زمن تُدار فيه الصراعات كسيرك جيوسياسي، تقف دول الخليج، بقيادة السعودية والإمارات، على خشبة مسرح اليمن، تُلوح بسيوفها اللامعة وهي تُغنّي أناشيد النصر، غافلة عن أن الأرض تحت أقدامها تتحرّك، والحوثيون -بدعم إيراني وتغاضٍ دولي- يُحكمون قبضتهم على الحبال.

مقالات

مأرب.. عمود الجمهورية وكابوس السلالة الأبدي

حينما غرقت المدن في سُبات الهزيمة، كانت مأرب المدينة التي لم تستسلم لمراسم الانطفاء. تقاوم لا لأنها أقوى عتاداً أو أوسع عدّة، بل لأنها مشيَّدة من الإرادة، مصنوعة من جوهر الحُرية، ومدفوعة برغبة غامضة لا تفهمها جيوش الغزاة: الرَّغبة في البقاء ككائنات حُرة فوق هذه الأرض.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.