مقالات
"الحجّ عَرَفَة" تأمّلات عن الواقفين في الجبل
أتأمل الحجاج، وتنتشر الرهبة ملء القلب والبصر. بشر واقفون في الجبل، بأثواب بيضاء وجباه يسيل العرق منها. يمكثون هناك فوق أحجار صماء، ويتحدَّثون مع السماء. في الجبل تكون الأرواح أكثر قدرة على الخلاص، تتهيّأ النفوس للتسامي الأكبر.
في الجبل سرّ من أسرار النبوّة؛ لكأنّه الموطن الأنسب لتلقي النداءات العلوية. عليك أن تصعد الجبل، أن تقطع الرِّحلة، أن تبذل الجهد؛ كي تغدو جاهزًا للتحرر؛ لتفيض عليك الأنوار، وربما تفيض منك وقد انزاح الحجاب قليلًا، وانكشف لك قبس من السرّ.
أتابع مشهد البياض في جبل عرفة، ويحضرني جبل مماثل "حِراء". لا بدّ أن يوجد رابط بين المكانين. في الجبل، كان النبي محمد يتمرّس على استقبال مدد السماوات. كان يهيّئ جسده، يعتني بالوعاء؛ كي تتسع روحه لما يتجاوز طاقة العقل. لم يكن اختيار النّبي للجبل كمكان يمارس فيه طقوس العُزلة القصوى، مكان اعتباطيًا وبلا معنى. بل كان المكان الأنسب وربما الوحيد، لاستكمال جاهزيته للاتصال بالغيب. هناك في الوحشة والخلاء، حيث عناصر الحياة الأولى. الجبل، الصخور، الصحراء الممتدة أمامه، والفضاء المنفتح أمام ناظريه. لا شيء يحول بينه وبين ذاته العميقة.
في جبل مماثل لجبل "عرفة"، توحّد النبي محمد بالقوّة الكامنة خلف هذا الوجود، ومن هناك كانت الخطوط سالكة ليهبط المعنى الجديد، وتشع أنوار الحُرية الكُبرى.
لربما لم يشأ النّبي أن يجعل من جبل حِراء، الرّكن الأبرز في رحلة الحجيج؛ كي ينأى بهم عن الشّبهات؛ ليربطهم بالمنبع الأول للخلاص، كما لو أنّه أراد لكل حاج أن يقترب من وحيه الخاص، ويتحدّث مع الله بذهن صافٍ ووعي متحرر من أي التباس، اختار جبل "عرفة" كمحطة للصعود الكبير. مكان مماثل لك فيه الحرية لبلوغ كمالِكَ الخاص.
في عرفة لا شيء يفصل بينك وبين المنبع سوى ما يحول بينك وبين قلبك. أنت في أقرب مكان بينك وبين النّبع، وما عليك سوى أن تشد رباط قلبك، لتنال الثبات الكبير.
الحجّ عرفة: لكأنّ الكنز في الجبل. هناك تزداد احتمالية خلاصك الأكبر. في الجبل يمكنك مصادفة قسطك من الحرية. لربما ينحسر القيد عن روحك، وتنجح في استعادة ما فُقد منك. عليك أن تُغادر بيتك، أهلك، عملك، كلّ من عرفتهم وعرفوك، مدينتك، أن تقطع صلتك بكل الأماكن والأزمنة، أن تُسقِط ماضيك وتودّع كل ما يربطك بالعالم. عليك أن تُثبت صدق إرادتك في التحرر أولًا، أن تخطو أولى خطواتك نحو غايتك، ولو كان ذلك بقطع روابطك المادية بعالمك، وحين تصل إلى الجبل، لا بُد أن أثر تحررك المادي يكون قد تسرَّب نحو باطنك، تكون قد أخذت مسافة من كل ما كنت تعتقد أنه أنت، تحررت من روابطك بالأشياء، انفصلت حواسك عن كل ما تملك، وغدت روحك أكثر قوة وجسارة لتتصل بكل ما كنت منفصلا عنه، وربما ما كنت تحتاجه أكثر من أي شيء آخر؛ لكنك تجهله.
في الجبل تقترب من جوهرك المحجوب، من ذاتك العميقة، وبقدرة قوة إرادتك ونظافة قنوات العبور الداخلية تكون حصتك من ثراء الهبة، ويكون خلاصك الباطني مساويًا لطاقة تحمُّلك. بقدر فراغك من كل ما أنت ممتلئ به في دنياك يكون امتلاؤك. بقدر تخليك عن كنوزك المعلومة لك يكون مستوى ظفرك بما هو مجهول لديك، وما أنت أحوج إليه، ما به تُثرى الحياة وتزاد خصوبة وكمالا.
في النهار العريض، في الظهيرة الفاصلة، حيث الأشياء تتمدد مكتملة ومتوهِّجة، الأرض واضحة، وكل ما فيها منكشف وشديد الجلاء.
في منتصف الزَّمن، منتصف نهار التاسع من ذي الحِجة. هناك بشر بلا أسماء ولا ألقاب، متحررون من ذواتهم الصغيرة، محتشدون بقواهم كاملة، طاقاتهم متجهة نحو هدف واحد، يرسلون أشواقهم نحو البعيد، وفي أعماقهم هدف واحد: حررنا يا الله من وجودنا الضئيل، هبنا قوة كافية؛ للتوحّد بك، خلِّصنا من كل ما يعيق تناغمنا معك، ضع إرادتنا في فلك إرادتك.
يهمس الحاج في سرّه: يود لو يمزّق قطعة الثياب الأخيرة من على جسده، يتوق لتمزيق حجابه الخاص، ولو قُدَّر له أن يخرج من جسده ويُغادر الجبل نحو الآفاق لما تردد في الذهاب.
شيء ما في أعماقه يُخبره أنّه ينتمي إلى هناك، نحو وراء الوراء؛ يكمن مأواه الحقيقي. كل ما في هذا الحياة لم يعد كافيا ليروي عطش الواقفين على الجبل. كل الوديان ضيِّقة بهم، كل السواقي عاجزة عن شفاء جوعهم الكبير. يهيج في كيانهم "الشوق الأعظم"، ولو كان الفيلسوف نيتشه واقفا يرقب المشهد لكان عنوانه هذا خاصا بأشواق الواقفين على جبل "عرفة". لا بُد أن تلمح بصيرته لهب أنظارهم وهي تصعد نحو السماء، وتنتحب لهفة لما لا يوجد من حرية أكبر سوى هناك؛ في الأعالي، في هوّة الأنوار البعيدة ودائرة الدوائر القدسية. ولا حرية أعلى من تلك التي يفيض بها الله في أرواح الحجيج الواقفين على جبل في قلب الظهيرة المكتملة، حيث الحياة تتمدد، كل شيء فيك ينمو ويتعاظم، وتعود "كيوم ولدتك أمك".
كلمة أخيرة: يؤمن المثقفون ب"اليوجا"، لا يجدون حرجًا في الحديث عن كلّ الطقوس الروحية، يخرجون للتفسّح في السهوب الخضراء، يتأملون على ضفاف البحيرات، ويُحبون المكوث قرب الشواطئ، وإطلاق أبصارهم وأرواحهم في الآفاق؛ لكنهم يُشيحون أذهانهم، عن هذا الموكب القدسي المهيب، عن الحشد المكلل بالبياض والبشر الواقفين على جبل وقلوبهم متجهة إلى السماء. أي روح بشرية فاهمة، لا تشعر بشيء ولا تفهم أي معنى من هذا الحدث الغريب، لا بُدّ أن وضوحها الذهني مشكوك فيه. ليس الأمر متعلقا بالكفر أو الإيمان، حتى ذلك العقل الذي لا يعرف شيئًا من روح الأديان لا بُد أن يشعر بأن في المشهد شيئا عجيبا.
حضور وكثافة، انسجام بصري، وبراعة في تصميم المشهد، عناصر حياة فائقة تكمن في تلك اللوحة المنسّقة بعناية نادرة.
أي عقل هذا الذي لا يجد دافع لتأملهم، الواقفون على الجبل، المهرولون خلف المدى، العدَّاءون بخطى خفيفة، وقد توسَّع لديهم مجال الرؤية، تشققت الحواجز أمامهم، وتجاوزوا حدود ذواتهم.
هناك يشعر الإنسان ب" القوة اللانهائية للروح".
مشكوك في عافية روحه من لا يشعر بثراء اللغز في ذلك المكان، وهذه اللحظة من الزمن؛ محدود هو وربَّما فقير مهما بلغ غناه.