مقالات
الحفيد السبْط
ذات يومٍ بعيد، كنا في مقيل رجل الأعمال الصديق والرفيق أمين أحمد قاسم في صنعاء، وحينها سأل أمين -ضاحكاً- الشيخ عبدالرحمن النعمان عن آخر أخبار ولده هشام.
وقد أجابه الرجل -ممتعضاً- حينها وملامح الأسى باديةً على صفحة وجهه الكهل والوقور. ولم أكن وقتها أعرف من هو هشام هذا، ولا قد سمعت من أمره شيئاً.
لكنني في تلك الليلة - وبعد خروج الشيخ عبدالرحمن من المكان - سمعتُ أشتاتاً من سيرة هشام ممن كان حاضراً في ذلك المقيل.
هالني ما سمعت آنذاك، برغم أن تلك السيرة الهشامية لم تكن قد اكتملت في تلك الفترة، وبرغم أن هشام لم يكن حينها قد قام بغزواته الكبرى، ومغامراته الملحمية التي اشتهرت عنه بعد العام 2000م في اليمن وخارجها.
وقد أحطتُ ببعضها من بعض الأصدقاء - لاسيما الراحل الكبير عمر الجاوي - ثم من بعض ما نُشر في الصحافة العربية عن بعض تلك المغامرات الداهية، التي تُعيد ذاكرتك إلى حكايات 'روبن هود' و'أرسين لوبين' وغيرهما!
وهشام هو النجل الأكبر -كما أعتقد- للشيخ اللطيف والساخر المرح عبدالرحمن النعمان، وقد كنت أحبّ مجلسه أينما حلّ. أي أنه حفيد الأستاذ الفذّ أحمد محمد نعمان. وهو أيضاً سبْط الشاعر الجهبذ عبدالله عبدالوهاب نعمان ('الشهير بالفُضول'، ومؤلف النشيد الوطني اليمني).
ولكنه أيضاً الشخص الذي دوَّخ أجهزة أمن عديدة وعتيدة في اليمن ومصر ولبنان وغيرها، بعد أن أحتال على رموز سياسية ووجاهات اجتماعية وأثرياء فطاحل من المحيط إلى الخليج، وبعد أن انتحل شخصية الرئيس علي ناصر محمد وأشخاص آخرين، كالسياسي المخضرم عبدالله عبدالمجيد الأصنج، والأديب الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح، وسواهما.
وبرغم أنه وقع في مصيدة جهاز الأمن المصري ذات يوم ليس ببعيد، وقضى عدة سنوات في سجون مصر، الاَّ أنه واصل مغامراته في الانتحال والاحتيال بعد خروجه من السجن.
وكان في كل مرّة ينتحل فيها شخصية الرئيس "أبو جمال" يتصل - تحت غطاء هذه الشخصية - بأحد أساطين المال والأعمال في السعودية، وبقية دول الخليج (وأغلبهم أمراء وحُكّام ووزراء وموظفون رفيعو المقام)، ولا تنتهي المكالمة إلاَّ بحوالة مالية دسمة للغاية من أحد أولئك إلى جيب هشام، الذي أعترف هو شخصياً بأن مجموع ما جناه من هذه الاتصالات والحوالات بلغ بضعة ملايين من الدولارات، ومثلها من الريالات والدراهم، وسائر العملات!
ومؤخراً، صار هشام النعمان نجماً في 'الميديا'، التي راح من خلالها يسرد سلسلة من حكاياته مع تلك الشخصيات التي انتحلها، وتلك التي احتال عليها. وقد وجدتُ لغته السردية سلسة وأسلوبه أخَّاذاً بما يؤهلّه، لأن يكون كاتباً أو راوياً من المقام الرفيع، ستحصد كتبه بالتأكيد مالاً غزيراً واسماً شهيراً، وبصفته الشخصية وهُويته الحقيقية هذه المرّة، ومن دون أدنى حاجة إلى انتحال صفة أخرى.
وقد تضاربت المواقف والمشاعر تجاه ما قاله هشام في مذكراته - من قِبل الذين شاهدوها واستمعوا إليه فيها من خلال 'الميديا'- بين مؤيدٍ لموقفه بالثناء الجزيل، ومستنكرٍ لأفعاله بالنّقد اللاذع، برغم أنه أعلن تطهُّره من ماضيه الأسود، وأبدى أسفه مما بدر منه تجاه العديدين. وهو في كل حال كائن بشري لا سماوي، وحتى أولئك الذين احتال عليهم، ونهبهم أموالهم، اقترفوا ما هو أفدح مما اقترفه هشام بملايين الدرجات، ثم يكفيه أن الرئيس علي ناصر قد صفح عنه على الملأ، وهو المتضرر الأكبر مما ارتكبه هشام من مصائب.
إنني أُكْبِر في هذا الحفيد السبْط النعماني 'الروبنهودي' هذا التطهُّر الآدمي، الذي أعتقده صادقاً ونابعاً من القلب، وليس كما يراه بعض أصدقائي بأنه ليس الاَّ مشروع سيناريو للجزء الثاني من الملحمة الهشامية، برغم أنني أعذرهم على موقفهم هذا، فالمثل المصري يقول " اللي اتلسع من الشوربة، ينفخ في الزبادي"، أو كما يقول مثل آخر "اللي لدغه الحنش، يخاف من الحبل"!