مقالات
الحوثيون بين تهديد السعودية والإمارات واستهداف الكابلات البحرية
تلوّح مليشيا الحوثي مجددًا باستئناف الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة ضد السعودية، متهمةً الولايات المتحدة وإسرائيل بالتحضير لمرحلة تصعيد جديدة تستهدف التحالف العربي، وهو خطاب يعيد إنتاج سردية المظلومية التي توظفها المليشيا لتبرير تحركاتها العسكرية وللتغطية على التحول النوعي في أدواتها، إذ باتت تمثل امتدادًا مباشرًا للاستراتيجية الإيرانية في استهداف المصالح الخليجية والدولية عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب وبحر العرب والخليج العربي.
في الأشهر الأخيرة، كشفت تقارير استخباراتية غربية وإقليمية عن وجود تهديدات حوثية متكررة تستهدف مشاريع الكابلات البحرية الدولية الممتدة في البحر الأحمر، وهي مشاريع استراتيجية تمثل العمود الفقري لشبكات الإنترنت والتجارة الرقمية العالمية، وتُقدَّر مساهمتها بنقل أكثر من 17% من حركة البيانات الدولية، ما يجعل أي تهديد لها ليس مجرد عملٍ تخريبيٍّ محدود، بل خطوة ضمن ما يمكن تسميته “حرب الاتصالات غير المعلنة”، التي تسعى إيران ووكلاؤها من خلالها إلى استخدام البنية التحتية البحرية كوسيلة ضغط على الغرب وشركائه الإقليميين.
منذ بداية عام 2023م، بات واضحًا أن البحر الأحمر تحوّل إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين القوى الإقليمية والدولية، إذ تم رصد نشاطٍ متزايدٍ لسفن استطلاعٍ إيرانية تحت غطاءٍ تجاريٍّ بالقرب من السواحل الإريترية والسودانية واليمنية، إلى جانب تقارير عن استخدام الحوثيين منظومات مراقبةٍ بحريةٍ إيرانية الصنع تُسهِّل تحديد مواقع الكابلات البحرية والمنشآت ذات الطابع الاستراتيجي.
وتتزامن هذه التحركات مع تصاعد وتيرة الهجمات الحوثية على السفن التجارية في الممرات الحيوية المؤدية إلى قناة السويس، وهو ما يربط بوضوح بين أدوات الحرب الاقتصادية والضغط السياسي.
إن اختيار البحر الأحمر كمسرحٍ رئيسيٍّ للتصعيد لا يمكن فصله عن التحولات في الاستراتيجية الإيرانية بعد تصاعد الصراع في غزة وتزايد الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة؛ فإيران تسعى إلى إعادة تفعيل جبهة البحر الأحمر عبر الحوثيين كخيار ضغطٍ غير مباشر على الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والإمارات، مع الحفاظ على مستوى من الإنكار الرسمي، وهو النمط ذاته الذي اعتمدته طهران في دعم حزب الله بلبنان والميليشيات العراقية.
تاريخيًا، كان مضيق باب المندب يمثل مركز الثقل في معادلة الأمن الإقليمي منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ شكّل مسرحًا للتنافس بين القوى الكبرى، واليوم يُعاد إنتاج المشهد بأدوات جديدة، حيث تمثل المليشيا الحوثية الذراع الإيرانية القادرة على تعطيل التوازن البحري في المنطقة بأقل كلفةٍ مباشرةٍ على طهران، مع توظيف خطابٍ سياسيٍّ يربط تحركاتها بالدفاع عن فلسطين أو مواجهة “المؤامرات الأمريكية الصهيونية”، كما تدّعي هروبًا من الاستحقاقات الداخلية، كأزمة انقطاع الرواتب وانهيار الأمن الغذائي في اليمن، وبخاصةٍ في مناطق سيطرة الحوثيين، وهي شعارات تُخفي وراءها أجندةً إيرانيةً صريحةً تهدف إلى زعزعة أمن دول الخليج العربي والعالم، والتحكم بمسارات الملاحة والطاقة في مضيق هرمز وبحر العرب وصولًا إلى مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
التحذيرات الدولية من احتمالية تعرض الكابلات البحرية للضرر ليست نظرية؛ فقد سجلت تقارير شركات الاتصالات الأوروبية والآسيوية منذ عام 2022م انقطاعاتٍ جزئيةً في خطوط الاتصال البحري قرب السواحل اليمنية والإريترية، وجرى تداول معلوماتٍ غير مؤكدةٍ عن اقتراب غواصاتٍ مسيّرةٍ مجهولةٍ من مناطق حساسة، وهو ما عزّز المخاوف من امتلاك الحوثيين تقنياتٍ جديدة حصلوا عليها من الحرس الثوري الإيراني، خاصةً في ظل نشاط برامج التدريب التي يشرف عليها “فيلق القدس” داخل صنعاء والحديدة وتعز.
من جهةٍ أخرى، فإن التهديد الحوثي المتجدد باستهداف السعودية بالطائرات المسيّرة يعكس حالةً من التوتر في العلاقة بين المليشيا والوساطات العُمانية والمساعي الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتحدة، إذ تسعى الجماعة إلى الضغط الميداني لإعادة فتح قنوات التفاوض من موقع قوة، بعد أن شعرت بتراجع الاهتمام الدولي بملف اليمن نتيجة انشغال العواصم الكبرى بالحرب في أوكرانيا والهدنة ووقف الحرب في غزة.
إن توظيف البحر الأحمر كجبهة ضغطٍ متعددة الأبعاد، من خلال استهداف السفن أو تهديد الكابلات البحرية أو استئناف الهجمات عبر المسيّرات، يكشف عن نيةٍ واضحةٍ لدى طهران لاستخدام المليشيا الحوثية في تحويل الممرات المائية إلى ورقة مساومةٍ في التفاوض مع الغرب، مقابل تخفيف العقوبات أو تأمين مكاسب سياسية في ملفات الإقليم. وهذا ما يفسّر تزامن التصعيد الحوثي مع زيادة النشاط الإيراني في خليج عدن ومضيق هرمز، ومع تصريحات كبار القادة في الحرس الثوري حول وحدة “محور المقاومة” في مواجهة ما يسمونه “التحالف الأمريكي الإسرائيلي العربي”.
إزاء ذلك، تبدو السعودية والإمارات أمام تحدٍّ استراتيجي يتجاوز الدفاع الجوي أو البحري، إذ يتطلب بناء منظومةٍ إقليميةٍ متكاملةٍ للأمن البحري تشمل حماية الكابلات والمنشآت تحت السطحية، وتعزيز الشراكات مع القوى اليمنية الشرعية والقوى الدولية الضامنة لأمن الممرات، إلى جانب الاستثمار في القدرات التقنية لرصد التهديدات السيبرانية والبحرية في آنٍ واحد، لأن الحرب المقبلة في البحر الأحمر لن تكون فقط بين الصواريخ والطائرات المسيّرة، بل بين المعلومات والاتصالات والبنية التحتية الرقمية التي تشكّل العصب الحقيقي للاقتصاد العالمي.