مقالات

عن رحلتي الجهنمية إلى عدن - 1 - (سيرة ذاتية - 20 -)

27/10/2025, 15:20:12

بعد أن طلب مني المسؤول إحضار الشهادة، كان علي أن أتوجه إلى عدن، وإلى مدرستي "كلية بلقيس" لإحضارها.

ولأنه لم يكن معي أجرة السيارة، ذهبت في الصباح إلى النقطة العسكرية في شارع تعز، وكلمت عسكر النقطة عن رغبتي في السفر.

أيامها كان عسكر النقطة، لمجرد أن تقول لهم إنك طالب وترغب في السفر إلى قريتك أو إلى أي مدينة، وليس معك أجرة السيارة، يتحمسون لمساعدتك، ويطلبون من سائقي السيارات أن يأخذوك معهم في طريقهم.

ولأن الخطوط يومها كانت مقطوعة بين صنعاء وعدن، والعلاقات متوترة، لم أقل لهم إنني مسافر إلى عدن، وإنما كلمتهم عن رغبتي في السفر إلى قريتي في تعز.
قال لي أكبرهم سنًّا:
– "حتى لو نيتك تسافر للمريخ، نخلي من يوصلك."

وعندها مرت شاحنة، وأركبوني فوقها، وقال لي العسكري الذي كان قد رفع معنوياتي بحديثه عن السفر إلى المريخ:
– "اركب معه لمعبر، وبعدها دبّر نفسك."

وبعد وصولي "معبر"، رحت أمشي وأستوقف السيارات والشاحنات، وجميعها كانت تمر من جنبي مسرعة، كأنها في سباق مع الزمن.
وعندئذ توقفت عن الوقوف والتلويح للسيارات والشاحنات العابرة، وقررت المشي. وكانت تلك أول مرة أمشي فيها مضطرًّا.

وفي قاع جهران سمعت أحدهم يناديني من داخل حقله ويدعوني إلى مشاركته الطعام. وحين اقتربت رأيت فلاحًا عجوزًا جالسًا في ظل شجرة، وأمامه طاسة لبن وطبق من الخوص "العَزَف" فيه فطائر ساخنة تفتح الشهية. ولأنني خرجت من صنعاء بدون صبوح، فقد سال لعابي من الجوع، ورحت أشاركه طعامه وأتجاذب معه أطراف الحديث.

وبعد أن انتهيت من الأكل، سألني وقال لي:
– "لِمَه ما تركب؟"
قلت له: أحب المشي.
لكنه كان أذكى من أن يصدقني.

ومن حقل الفلاح العجوز عدت إلى الرصدة، ورحت أستوقف السيارات والشاحنات وألوّح للسائقين أن يوقفوا علّ وعسى، لكنهم كانوا يتجاهلوني ويمرون من دون أن يلتفتوا إلي، أو يشعروا بوجودي، مع أنني كنت الوحيد الذي يمشي في قاع جهران.

وبعد مرور رتل من السيارات والشاحنات، رأيت سيارة في البعيد تسير بأقصى سرعتها، ورحت ألوّح لها. وحين اقتربت ووقفت أمامي، ارتعبت حين تبين لي أنها سيارة عسكرية.
لكن العسكري، وقد أبصر الخوف في ملامحي وتقاسيم وجهي، ابتسم وقال لي:
– "مالك خايف! اطلع، أوصلك معي لذمار."

وكانت ابتسامته بمثابة ضوء أخضر أشعرني بالأمان، وعندها ركبت معه إلى ذمار.
ومن ذمار واصلت السير باتجاه يريم، وبدت لي الرحلة ما بين ذمار ويريم كأنها رحلة في الجحيم. كنت أمشي وأواصل المشي، وليس هناك مكان أصل إليه. وبعد أن كنت أطمع بسيارة توصلني إلى تعز، صار كل أملي أن أجد سيارة توصلني إلى يريم.

وفي الأخير، وقد غلبني التعب والعطش وحر الشمس، جلست أستريح في ظل شجرة على بعد مسافة من الطريق، ثم نهضت وواصلت المشي إلى أن وصلت "بيت الكوماني". وكان الوقت عصرًا أو ما بعد العصر، لم أعد أذكر.
وبعد "بيت الكوماني" بمسافة، مرت سيارة خصوصي ووقفت لي من دون أن أستوقفها. وكان سائقها شابًا طيبًا من يريم، وعندما عرف أنني مشيت كل تلك المسافة قال لي:
– "أصحاب ذمار يكرهوا المبنطلين، ولو ما يبصروك بالبنطلون ما يمكن يوقفوا لك."

ولم أشأ أن أرد عليه وأقول له إن السائقين الذين عبروا الخط كانوا من كل مناطق اليمن، وأكثرهم من تعز.

وبعد خروجي من يريم تفاقم خوفي، وخفت أن تغرب الشمس وأنا أخبط في ذلك القفر الموحش. ولشدة غضبي وزعلي من السائقين الذين كانوا يتجاهلون تلويحاتي ونداءاتي، رحت من شدة غضبي أرشق كل سائق يمر من جنبي بوابل من الشتائم واللعنات.

بعد ذلك مر قلّاب محمّل بالحجارة، وبعد أن توقف ركبت معه إلى "كتاب". وعند وصولي "كتاب" كانت الشمس قد أقفلت كتابها، وبدأ الليل بنشر كتابه المظلم.
وشعرت وأنا أصعد نقيل سمارة بقشعريرة تسري في جسدي. وعند تلك القرية المطلة على "قاع الحقل" الواقعة في مدخل النقيل، هجمت علي كلاب القرية. ومن شدة خوفي أطلقت صرخة رعب، ورحت أستنجد بأهل القرية.

ومن أقرب بيت للرصد خرج رجل كهل وراح يهش الكلاب ويبعدها عني، ثم راح يسألني عدة أسئلة كانت توحي أن لديه شكوكًا حولي. وبعد أن بددت شكوكه راح يثير مخاوفي ويخوفني من نقيل سمارة ومن السير فيه ليلًا، وطلب مني أن أدخل بيته وأبيت عنده إلى الصباح.
وعندما رفضت وأصررت على مواصلة طريقي، بقي بجانبي يؤشر للسيارات أن تقف، وكانت السيارات تمر من جنبنا وتدير لنا مؤخراتها. وبعد ساعة من الوقوف في الرصدة، مرت سيارة نقل شبه جديدة في طريقها إلى إب، وراح الرجل الكهل الذي أنقذني من الكلاب يكلم سائق السيارة بشأنِي، ووافق الرجل أن يأخذني معه إلى إب بعد أن عرف أنني طالب.

وحين صعدت إلى سيارته وركبت بجانبه، رأيته يمسك قارورة ويرفعها إلى مستوى فمه ويشرب منها. وبعد أن كرع في بطنه عدة جرعات، سألني عن اسمي:
– "إيش اسمك؟"
قلت له: عبد الكريم.
قال لي وهو يناولني القارورة:
– "اشرب يا عبد الكريم وانسَ همومك."

وبعد أن اعتذرت قال لي:
– "كم عمرك؟"
ولم أكن أعرف حينها كم عمري، لكني قلت له:
– عمري خمس عشرة سنة.
قال لي: "عادك صغير."

وراح يشرب من فم القارورة ويواصل الشرب. وكانت تلك أول مرة أركب فيها مع سائق يسوق ويشرب، وليلتها شعرت بالخوف، وكان خوفي يزداد في كل لحظة يرفع فيها الزجاجة إلى فمه.
ثم إن طريق سمارة طريق محفوف بالمخاطر لمن يقطعه نهارًا بسيارته، فكيف بسائق يقطعه ليلًا وهو شارب؟ ذلك هو الجنون بعينه.

لكن السائق الذي ركبت معه كان أكثر جنونًا من كل المجانين، ليس فقط لأنه يسوق ويشرب، وإنما لأنه كان يسوق بسرعة جنونية، وكانت سرعته تزداد مع كل جرعة يشربها.
ولم يكن يسرع فقط، وإنما كان يخرج من خطه كي يتجاوز سيارات وشاحنات أمامه دون أن يحسب حساب السيارات والشاحنات القادمة.
وأكثر من مرة، وهو يخرج من خطه، كنت أرى الموت بعيني وأكاد ألمسه.

وعندما وصلنا مقاهي سمارة، أوقف سيارته وعزمني على عشاء. وكانت المقهوية جميلة، وأكثر جمالًا من كل المقهويات في مقاهي سمارة.
وبعد دخولنا راح يغازلها ويتحرش بها أمامي، وكنت أنا في غاية الإحراج من تصرفاته تلك. وبعد أن تعشينا وعدنا إلى السيارة، راح يواصل الشرب ويسوق بسرعة جنونية.

وكان الخط فاضيًا، ولم تكن هناك سيارات أو شاحنات ليتجاوزها، لكن السيارة كانت قد بدأت تترنح من فرط ما شرب. وكنت أرتعد من الخوف، لكن خوفي تعاظم عندما رأيته يفرغ الزجاجة ويلقي بها من النافذة.
وحينها وسوست لي نفسي أن أنصحه بتخفيف السرعة، لكني لم أجرؤ، وخفت لو نصحته أن يغضب مني وينزلني من السيارة. ثم إن الرجل كان قد تكرم معي وأركبني بسيارته وعزمني على عشاء، وبدلًا من أن أنصحه بتهدئة السرعة سألته وقلت له:
– "كم باقي لو ما نوصل إلى إب؟"

وكان سؤالي قد فتح شهيته للحديث، فراح يكلمني بزهو عن سيارته التي لا مثيل لها، وقال لي إنه الوحيد من بين السائقين الذي يقطع المسافة بين صنعاء وإب خلال...
وقبل أن ينهي كلامه، حدث ما كنت أخشاه وأتوقعه.

مقالات

جرّاح الأمل

مدهش ما يصنعه العقل اليمني الفذ، البروفيسور أبو ذر الجندي. في المدينة التي صارت عاصمة للضجيج، ثمة حلم ينمو وأمل يفرد جناحيه ليغمر تعز واليمن عموماً بأنّ تغيير المستقبل ممكن، لكنه يبدأ من الذات.

مقالات

هل هُزِمَ المشروع الصهيوني؟

السردية الكُبرَى للمشروع الصهيوني هي "الاحتلال الاستيطاني". فقد قامت هذه السردية على أساس التهجير القسري، والتطهير العرقي، وَخُرَافة «الوعد الإلهي»، وأكذوبة «أرض بلا شعب، لِشَعبٍ بلا أرض».

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.