مقالات

الحوثي.. وحشية بلا هوادة تفتت النسيج اليمني

03/07/2025, 14:08:53

لم يعد بيننا وبين الحوثي مساحة يمكن البناء عليها. لا رابط نقي يمكن ترميمه، ولا أرضية أخلاقية تصلح لحوار. ما فعله بهذه البلاد تجاوز حدود الخلاف، هوى بها إلى درك من الوحشية والتفكك، مزّق النسيج الاجتماعي، وحوّل الروابط إلى رماد. ارتكب مجازر لم توثقها كل الكاميرات، وقتل الآلاف بدم بارد. مارس انتهاك الكرامات، وسحق الحقوق، وزرع الخوف داخل كل بيت. من السجون خرجت صرخات لا تجد من يصغي، ومن البيوت خرج الناجون بلا ذاكرة، محملين بألم لا يُحتمل. لا يمكن توصيف الحوثي كجماعة مسلحة فقط، هو منظومة متكاملة لصناعة الرعب.

قذائفه لا تميِّز بين سوق ومسجد، بين طفل وامرأة، بين شيخ وطالب. يقصف ليكسر الحياة. يقصف ليُرهب. يقصف ليقول إنه موجود. مشاهد الدمار ليست نتيجة عرضية، بل جزء من استعراض القسوة. يتعامل مع المدن كما يتعامل الجلاد مع الضحية: يضرب حيث تكون الضربة أكثر إيلامًا. تعز تعرف هذا الوجه جيدًا، تعرف كيف يأتي القصف فجأة، ويأخذ معه أرواحًا لا ذنب لها سوى أنها تحيا.

في الأمس، اغتالوا "حنتوس". اقتحموا منزله، حاصروه، ثم قتلوه أمام أسرته. فعلوا ذلك وهم مطمئنون أن أحدًا لن يحاسبهم. أرادوا أن تكون الرسالة واضحة: لا صوت يعلو فوق صوت الرعب. لكنهم لم يتوقعوا أن تتحول قضية "حنتوس" إلى قضية رأي عام. لم يتوقعوا أن تتحرك المشاعر بهذه السرعة، وأن ينهض الناس من خوفهم ليطالبوا بالحقيقة.

وفي اليوم التالي، جاء القصف على تعز. استهدفوا محطة وقود، في توقيت لا يحمل أي دلالة عسكرية، سوى الرغبة في التشويش. أرادوا دفن جريمة تحت ركام جريمة أخرى. لم يحتملوا أن تبقى العيون مشدودة إلى "حنتوس"، فاختاروا القصف أداةً لصرف الانتباه. لا يملكون الشجاعة لمواجهة الأسئلة، ولا القدرة على تبرير سلوكهم، فيلجأون إلى سياسة الدخان والنار.

لا يمكن فهم ظاهرة الحوثي في اليمن بمعزل عن السياق التاريخي والسياسي العميق الذي أنتج هذا الكيان، ولا يمكن اختزال وجوده في مجرد فصيل مسلح أو نزاع عابر. الحوثي هو مشروع اغتراب وجودي وفكري، انعكاس لخلل بنيوي في الحالة اليمنية، وفي المفاهيم السياسية والاجتماعية التي تحكمها، وهو في الوقت ذاته منظومة قمع ديني وسياسي تكرِّس موت العقل، وتهدد إرادة الشعب في الوجود الحر والمشروع.

من الناحية الفكرية، يمثل الحوثي حالة من التمزّق في الذات اليمنية؛ إذ يسعى إلى بناء هوية سياسية دينية متصلِّبة، تمارس انغلاقًا على الآخر، وترفض تعددية الوعي والتنوّع الثقافي. يتخذ من الدِّين مسرحًا للسلطة، يضع الحدود بين "الصحيح" و"البدعة" من منظور أيديولوجي صارم، يفرض طاعة مطلقة لا تقبل النقاش أو الاختلاف، محولًا الدين إلى أداة سلطة تكميم الأفواه، وتغليب العنف على الحوار، وإلغاء الإنسان كمواطن فاعل. هذا الإلغاء يخلق مأساة وجودية تتخطى الجوانب السياسية، لتصل إلى بُعد فلسفي عميق حول معنى الكينونة والحرية في سياق القهر.

الحوثي لا ينفصل عن منظومة دولة الطغيان التي لا تسعى إلى بناء سلطة شرعية تحترم حقوق الإنسان، وإنما إلى إرساء حكم عسكري قسري مبني على القتل والترويع. يحمل مشروعًا سياسيًا متجاوزًا للبُعد المحلي، فهو متداخل مع محاور إقليمية ودولية تحكمها مصالح متشابكة. هذه الخلفية تجعله ليس مجرد جماعة محلية، وإنما لاعبًا في لعبة جيوسياسية تحاول إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة عبر تصعيد العنف وفقدان الشرعية الداخلية.

الحوثي يرتكز على نموذج حكم مبني على التدمير التدريجي للنسيج الاجتماعي، لا على إعادة بناء سلطة متماسكة ومستقرة. يستخدم القتل المنظم كأداة لإرهاب المجتمعات، وحصار المناطق كأسلوب للضغط، وإسكات الأصوات المعارضة كخط دفاع أخير. يقتل "حنتوس" لأن صوته ينم عن رفض ووعي، لأنه يمثل بُعدًا من الحرية التي لا يمكن له استيعابها أو السماح لها بالوجود. استخدام العنف ضد المدنيين وتدمير البنية التحتية يؤكد أن هدفه ليس حماية المجتمع، وإنما تدميره وإخضاعه.

على المستوى الثقافي والاجتماعي، ينشر الحوثي ثقافة الخوف والتشظي، في الوقت الذي يدّعي فيه الوحدة والانسجام. يقيم حدودًا بين أبناء الوطن الواحد، مصنفًا الناس وفق ولاءات أيديولوجية ضيقة، ليقوِّض كل أشكال التضامن الوطني. هذه السياسات تفاقم الانقسامات، وتغذِّي صراعات داخلية تُبعد اليمن عن مشاريع السلام والتنمية.

المفارقة في هذا المشروع أنه يستند إلى خطاب مزيّف عن التحرير والاستقلال، بينما يعمّق في الواقع الاحتلال الداخلي لمقدرات الشعب اليمني، ويقمع كل تطلعاته. خطابه السياسي، في جوهره، هو كذبة إستراتيجية تهدف إلى إخفاء فساد النظام، وهشاشة شرعيته، وتعزيز قبضة السلطة بأي ثمن. كل حملة عسكرية، وكل قصف عشوائي، وكل سجن تعسفي، هو دليل على فشل هذا الخطاب وانهزامه أمام إرادة الشعب.

يُمارس الحوثي عملية ممنهجة لتفكيك النسيج الاجتماعي اليمني الذي شكل تاريخيًا نموذجًا فريدًا من التعايش والتعددية الثقافية والقبلية. عبر سياسات استهداف ممنهج للأطر الاجتماعية، يعمل على زرع بذور الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد، يحول العشيرة والقبيلة من أساس للتضامن إلى أداة للصراع الداخلي، ويرسم حدودًا وهمية بين "الولاء" و"الخيانة" تستند إلى أيديولوجيا طائفية متشددة لا تقبل الاختلاف. هذا التفكيك المجتمعي يعمِّق حالة الاغتراب الداخلي، ويقتل أي مشروع للوحدة الوطنية، محولًا اليمن إلى رقعة متقطعة من الخوف والحذر.

لا يقتصر هذا التدمير على الجانب الثقافي فحسب، بل يتعداه إلى شل القدرة الاقتصادية والاجتماعية عبر حصار المناطق، وفرض القيود على الحركة والتجارة، والسطو على الموارد. يُحوّل الحياة اليومية إلى معاناة مستمرة، مما يزيد من هشاشة المجتمعات، ويقوّي الشعور بالعجز والخذلان، ويُغذي حالة الانكسار التي يحتاجها النظام ليستمر في حكمه بقبضة حديدية.

لا يمكن فَصْل صعود الحوثي واستمراريته عن الدعم الممنهج من قوى إقليمية تسعى إلى استثمار الصراع اليمني لتحقيق مكاسب إستراتيجية في خريطة النفوذ الإقليمي. هذا الدعم لا يقتصر على الجانب العسكري والتسليحي، وإنما يمتد إلى الحماية السياسية والاقتصادية، ما يكرِّس الانقسام ويحول اليمن إلى ساحة صراع بالوكالة.

الخلاصة: الحوثي ليس سوى ظاهرة موتية تنبثق من عُزلة وجودية وقمع فكري، تحاول إسكات صدى الحرية في روح اليمنيين، وتطويق الكينونة في بوتقة الجهل والدمار. هو ليس معركة عسكرية فحسب، وإنما صراع وجودي بين نقيضين: الإبادة والإبداع، القهر والحرية، الظلام والوعي. لن تنتصر آلة القتل، التي ترفض الإنسان، إلا بتوحّد الإرادات الحية، واستيقاظ العقل الجماعي، ورفض الاستسلام للعبودية.

الزيف الذي يبنيه الحوثي على أنقاض حياة اليمنيين سينهار تحت وطأة الحقيقة المتأججة في نفوس الناس، لا يوقفها قصف، ولا يخمدها حصار. اليمن ليس مجرد جغرافيا مقسمة، بل كينونة متجددة تنتظر التحرر من عتمة هذا النظام الدّموي لتشرق من جديد بشمس الحرية والكرامة.

في كل صوت يصدح ضد الظلم، وفي كل خطوة ترفض الاستعباد، يولد المستقبل. لا سلام إلا بالحق، ولا أمان إلا بالحرية، ولا وطن إلا حين يستعيد الإنسان كينونته كاملة بلا قيود.

مقالات

فؤاد الحِميري: فبراير الذي لا يموت

عندما تتأمل قصائد وكتابات وأشعار فقيد الوطن وأديب فبراير، الأستاذ الثائر فؤاد الحِميري، تجد أنها جميعًا تصب في ينابيع مبادئ الحرية والكرامة ومقاومة الظلم. هذه المبادئ هي ذاتها الأهداف السامية لثورة 11 فبراير، ثورة الشباب السلمية اليمنية، التي كان الحِميري أحد أبرز شبابها وشاعرها الملهم.

مقالات

للورقة الباذخ بالشجاعة في جبال السلفية

أعتقدُ جازمًا أن طبيب الأسنان قد فخخ ضرسي تمامًا ببقايا تلك الهدايا التي أرسلها القذافي كعطيةٍ نفطيةٍ كريمة، ليجود بالحياة على من تبقّى بيدٍ واحدة أو بقايا أقدام، وهو يحتفل بأن النبض لا يزال فيه.

مقالات

قبائل برط الجوف: سوسيولوجيا التوظيف الإمامي للقبيلة

ليست هذه الورقة بحثًا مكتملًا، بقدر ما هي دعوة مفتوحة للباحثين والمختصين لتسليط الضوء على ظاهرة تاريخية مقلقة، تعود جذورها إلى أكثر من ألف عام، ولا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم. إنها ظاهرة توظيف قبائل معيّنة، وعلى رأسها قبائل "ذو محمد" في منطقة برط بمحافظة الجوف، كمخزون بشري عسكري في خدمة حروب الأئمة الزيدية في اليمن.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.