مقالات

قبائل برط الجوف: سوسيولوجيا التوظيف الإمامي للقبيلة

02/07/2025, 13:56:38

ليست هذه الورقة بحثًا مكتملًا، بقدر ما هي دعوة مفتوحة للباحثين والمختصين لتسليط الضوء على ظاهرة تاريخية مقلقة، تعود جذورها إلى أكثر من ألف عام، ولا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم. إنها ظاهرة توظيف قبائل معيّنة، وعلى رأسها قبائل "ذو محمد" في منطقة برط بمحافظة الجوف، كمخزون بشري عسكري في خدمة حروب الأئمة الزيدية في اليمن.

ولا يعني التركيز على قبائل "ذو محمد" أنهم وحدهم من شكّلوا هذا المخزون القتالي، بل إن معظم قبائل الهضبة الشمالية، وخصوصًا قبائل خولان بفروعها المختلفة، التي شكّلت الحاضنة الاجتماعية الأوسع للمذهب الهادوي الزيدي طوال أكثر من اثني عشر قرنًا، كانت الرافد القتالي الأكثر استمرارية لمشروع الإمامة، وساهمت في تقويته ونشره في مختلف جهات اليمن، فيما يأتي نموذج قبائل "ذو محمد" ليكون أحد أبرز الأمثلة على هذا التوظيف التاريخي المستمر.

في أقصى شمال محافظة الجوف، تقع منطقة برط، في عمق ما يُعرف تاريخيًا بـ"الهضبة الزيدية". هناك تتمركز قبائل "ذو محمد"، وهي أحد فروع قبائل "دهم" الهمدانية. وقد عُرفت هذه القبائل بطابعها القتالي، وتاريخها المرتبط بوعورة الجغرافيا وضيق المعاش. شكّلت البيئة القاسية لبرط طبائع أهلها، فبرزت لديهم ثقافة الغزو، أو ما يُعرف محليًا بـ"الفود"، كوسيلة لتحصيل الرزق في ظل شح الموارد وندرة فرص الزراعة والتجارة. هذه العوامل جميعها جعلت من القبيلة هدفًا مثاليًا وسهل التوظيف من قِبل الأئمة، فتم الاعتماد عليها كقوة ضاربة، وجُيّشت باستمرار كمخزون بشري جاهز للقتال.

منذ نشأة الإمامة الزيدية في اليمن أواخر القرن الثالث الهجري، اعتمد الأئمة على التجنيد القبلي المسلح لمواجهة خصومهم من القوى السنّية، وأحيانًا من خصومهم الزيديين أنفسهم. احتلت قبائل برط موقعًا مركزيًا في هذا التوظيف العسكري المستمر. وفي العهد القاسمي، خصوصًا في زمن الإمام المتوكل إسماعيل (1054–1087هـ)، ظهرت فتاوى علنية تجيز ما سُمّي بـ"جهاد" القبائل الزيدية ضد المناطق الشافعية، وإباحة أموال أهلها كغنائم حلال. وقد وثّقت فتوى شهيرة بعنوان "إرشاد السامع في جواز أخذ أموال الشوافع" هذا التوجّه، حيث نصّت على جواز غزو المناطق التي لم تبادر بمبايعة الإمام.

في عام 1668م، يوثّق المؤرخ عبد الله الوزير أن قبائل من برط وسفيان نفذت غارات على قوافل ومسارات تجارية في تهامة، بعد تحريض مباشر من الإمام، وتم توزيع الغنائم على المقاتلين بموجب تلك الفتاوى، في تكرار لنمط مؤسسي لتوظيف القبائل المسلحة في خدمة الإمامة تحت لافتة الجهاد.

الإمام أحمد بن الحسن القاسمي، الملقب بـ"سيل الليل"، وهو ثالث الأئمة القاسميين، كان مثالًا صريحًا لهذا النمط. امتاز هذا الإمام بزحفه المستمر على المناطق السُّنية، وشنّه غارات ليلية وهجمات خاطفة ضد قرى ومناطق شافعية. وكان مقاتلو قبائل برط، وخصوصًا "ذو محمد"، في طليعة تلك الحملات.

بعد انتهاء الحملات، كان الأئمة يمنحون بعض المناطق الرَّعوية في إب وتعز وغيرها كمكافآت للمقاتلين الذين شاركوا في الحروب. ومن خلال هذا التقليد، نشأت أنماط استيطان قبلي جديدة خارج المعاقل الزيدية التقليدية. هذا الاستيطان أدّى لاحقًا إلى تحولات ديموغرافية واجتماعية وثقافية عميقة. وحتى اليوم، نجد امتدادات واضحة لقبائل "ذو محمد" في مناطق شرق إب وغيرها من المناطق الرَّعوية، حيث يلعب الكثير من أبنائهم أدوارًا متقدّمة في دعم السلطات المركزية المتحدرة من الهضبة، سواء في الحقبة الإمامية، أو حتى في النسخة المليشيوية/الجمهورية الحالية.

إن هذه الظاهرة تستحق دراسة علمية موسعة، تتناول:

1. السياقات الجغرافية والاقتصادية لبرط ودورها في تشكيل العقلية القتالية.

2. الفتاوى الزيدية كمصدر شرعنة ديني للعنف المؤسسي.

3. البنية القبلية ومرونتها في التوظيف السياسي.

4. أثر الهجرة المكافئة على البنية الديمغرافية في إب وتعز.

5. استمرار هذه الوظيفة العسكرية حتى اليوم بصيغ جديدة.

إن مأساة اليمن، كما تكشف هذه الظاهرة، ليست وليدة اللحظة، بل هي متجذرة في بنيات تاريخية عميقة، كرّست ثقافة العنف والولاء للغلبة، وغيّبت مفاهيم التنمية والعدالة. ولهذا، فإن إعادة قراءة هذه الظواهر بمنهجية نقدية، واستحضار أبعادها البنيوية، يُعد مدخلًا ضروريًا لفهم أعمق للصراع اليمني، وربما يشكّل خطوة أولى نحو مشروع وطني أكثر عدلًا وواقعية، ينقذ اليمن من دوامة الاستغلال والتوظيف القهري التي خنقته قرونًا طويلة.

مقالات

فؤاد الحِميري: فبراير الذي لا يموت

عندما تتأمل قصائد وكتابات وأشعار فقيد الوطن وأديب فبراير، الأستاذ الثائر فؤاد الحِميري، تجد أنها جميعًا تصب في ينابيع مبادئ الحرية والكرامة ومقاومة الظلم. هذه المبادئ هي ذاتها الأهداف السامية لثورة 11 فبراير، ثورة الشباب السلمية اليمنية، التي كان الحِميري أحد أبرز شبابها وشاعرها الملهم.

مقالات

للورقة الباذخ بالشجاعة في جبال السلفية

أعتقدُ جازمًا أن طبيب الأسنان قد فخخ ضرسي تمامًا ببقايا تلك الهدايا التي أرسلها القذافي كعطيةٍ نفطيةٍ كريمة، ليجود بالحياة على من تبقّى بيدٍ واحدة أو بقايا أقدام، وهو يحتفل بأن النبض لا يزال فيه.

مقالات

أغانينا تشبهنا كثيرا

عشر سنوات من الغربة، ربما تشكّلت فيها ذائقتي الفنية. لا أخفي انبهاري في المراحل الأولى بالموسيقى العربية والأجنبية، لكنه تلاشى شيئا فشيئا مع مرور الوقت واحتياج الروح إلى "جرعة أقوى" من الحنين.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.