مقالات

الخطوبة في العيد الصغير والزواج في العيد الكبير - سيرة ذاتية 9

19/08/2025, 09:03:17

بعد خروجنا من الاجتماع الحزبي، سألني رفيق اسمه "جميل"، وكان من أقرب الرفاق الخمسة إليّ، عما إذا كنت جادًا في كلامي عن رواية "العجوز والبحر"، وأنني سوف ألقيها في أقرب برميل للقمامة!!

قلت له -وأنا زعلان- إن المسؤول الحزبي هو من يستحق أن نلقيه في برميل القمامة؛ لأنه غبي، وأقسمت أنني لن أحضر اجتماعاته بعد اليوم.

قال لي، وهو خائف وغير مصدّق: "إيش با تعمل؟! هل با تخرج من الحزب؟".

قلت إنني سوف أطلب من الشخص الذي استقطبني للحزب أن ينقلني إلى حلقة أخرى، وإن لم فسوف أخرج من الحزب.

قال لي وقد تفاقم خوفه: "مو تجنّنت!!".

ومع أنني كنت خائفًا أكثر من رفيقي الخائف، إلا أن خوفي كان هو منبع قوتي، وكنت في الحالات الطارئة أشهره مثل خنجر.

أيامها كان ثمة يقين بأن دخول الشخص في حزب، في تنظيم، في جماعة من الجماعات أمر سهل، لكن الخروج صعب وشبه مستحيل. 

وعلى الرغم من أنني كنت قد ضقت بالعمل الحزبي، وتبيّن لي من أول اجتماع أن الحزبية لا تصلح لي وليست على مقاسي، إلا أنني لم أجرؤ على مغادرة الحزب. وكان كل ما أطمح إليه، وقد دخلت الحزب، هو أن ينقلوني إلى حلقة أخرى.

تمامًا مثل السجين الذي يجد حريّته في الانتقال من زنزانة إلى أخرى داخل السجن.

وفي عصر اليوم التالي، قابلت الشخص الذي استقطبني للحزب، وكلمته عن رغبتي في الانتقال إلى حلقة أخرى، وكنت مصرًا هذه المرّة، وكان الإصرار يظهر في تقاسيم وجهي، وفي كلماتي وأنا أتكلم، وفي صوتي المتوتر والمفعم بالانفعال. 

وعندما سألني عن السبب، أعطيته رواية "العجوز والبحر"، وسألته إن كان قد قرأها أولًا؟ فقال إنه قرأها. 

وبعد أن قال لي إنه قرأها، سألته عن رأيه فيها؟ فقال كلامًا لم أعد أذكره بالحرف، لكنني أتذكر أنه راح يتحدث عنها بحب وإعجاب شديدين، وقال إن صراع "سانتياغو" مع السمكة العملاقة كان صراعًا بطوليًا، وأنه وإن كان قد خسر المعركة وخسر السمكة وخرج محطَّمًا إلا أنه لم يُهزم ولم يستسلم.

وكان كلامه هذا قد أكد لي أن مسؤولي الحزبي كان غبيًا في حكمه على الرواية؛ لأنه حكم عليها من دون أن يقرأها، ثم إنه وهو يحكم عليها حكم عليها بعقلية التاجر - بالربح أو بالخسارة - وليس بعقلية الثوري الذي يجد في خسائره وفي هزائمه وقودًا لمواصلة كفاحه.

وبعد أن انتهى الرفيق الذي استقطبني للحزب من كلامه، حدثته عن انطباعي وانطباع رفاقي الخمسة عن الرواية، وعن رد فعل مسؤولنا الحزبي، والكلام الذي قاله لنا عنها، وكيف إنه زعل منهم وزعل أكثر منّي. 

وقلت له إنه قبل أن يستقطبني للحزب كنت حرًا وأقرأ ما أريد وأنا بكامل حريتي، وأما بعد أن استقطبني للحزب فصار علي أن أقرأ ما يعجب المسؤول الحزبي.

قال لي وقد استفزه كلامي: "المسؤول الحزبي ليس هو الحزب".

قلت: "لكنه مسؤول عني، وفي كل مرة ينتقدني أمام رفاقي، ويتهمني بالانحراف عن خط الحزب".

قلت له ذلك وأنا منفعل ومتألم، وعلى وشك أن أبكي.

وحتى يرضيني اقتادني إلى المطعم نفسه الذي عزمني فيه على "واحد فاصوليا" ليلة استقطبني للحزب، لكنني هذه المرة أصررت أن يكون العشاء على حسابي. 

وكان الشعور بأني دخلت الحزب ب"واحد فاصوليا" يؤذيني، ليس لأنه عزمني على فاصوليا فقد كنت أحب الفاصوليا، ولكن لأنني بعد العزومة شعرت بالحرج ودخلت الحزب محرجًا منه وليس اقتناعًا.

ليلتها لم يقل لي الكلام الذي قاله في المرة السابقة عندما طلبت منه أن ينقلني إلى حلقة أخرى؛ ذلك لأنه في المرة الأولى عندما طلبتُ منه نقلي صدمني برده حين قال لي إن ذلك غير ممكن، وأن "المطلوب مني كعضو في الحزب هو أن أنفذ ما يطلبه الحزب مني، وليس أن ينفذ الحزب ما أطلبه منه".

وأما هذه المرة فقال لي كلامًا أفرحني، وهو أنه سوف ينقلني إلى حلقة أخرى وإلى مسؤول آخر.

 وفي نهاية الأسبوع، سلمني لشخص اسمه أحمد القدسي، وكان أطيب وأصدق وأنبل مسؤول حزبي عرفته أثناء إقامتي في الحديدة. 

ومن أول اجتماع أحببته، ليس فقط لتواضعه وبساطته، ولا لسعة ثقافته وغزارة معرفته، وإنما للطريقة التي كان يعرض فيها أفكاره؛ فقد كان يقول أفكارًا صعبة ومعقدة للغاية، ويقولها ببساطة متناهية.

وبعد اجتماعين أو ثلاثة، توطدت علاقتي به، وصار يفتح لي بيته ويدخلني مكتبته ويعيرني كتبه. 

وكانت المفاجأة أنني وجدت في مكتبته كل الكتب والروايات الوجودية الملعونة، بما في ذلك روايات "ديستويفسكي"، التي كان المسؤولون الحزبيون في صنعاء يحذروننا منها، ويقولون لنا إنها تركز على الصراع الداخلي للفرد وليس على الصراع الطبقي.

ومن مكتبة الرفيق أحمد القدسي استعرت رواية "الشياطين"، وهي الرواية التي كانت مكروهة وملعونة ومحظور تداولها في الاتحاد السوفيتي أثناء حكم الحزب الشيوعي.

ولشدة ما أحببت هذا الرجل واحترمته، عزمته في أول يوم من شهر رمضان، ولم أعزمه في مطعم، وإنما عزمته في "العُشة"، وعرفته على البنت تغريد وأمها.

 وقلت له إنني أحب البنت تغريد وهي تحبني، وأريده أن يخطبها لي، فوافق وسألني عن موعد الخطوبة، ومتى أريد أن يأتي ليخطبها لي، فقلت له: "في العيد الصغير".

وبعد مغادرته "العُشة" قلت للبنت تغريد: "هذا الرجل سوف يأتي في العيد ليخطبك من أمك".

وحين قلت لها ذلك امتقع وجهها من الرعب، وخطر في بالها أنه سيأتي ليخطبها له. لكنني أسرعت في التوضيح، وقلت لها إنه سيأتي ليخطبها لي، وليس له.

ولحظتها أضاء وجهها من الفرح، وسألتني عن موعد زواجنا، فقلت لها: "في العيد الكبير".

ومن شدة فرحها خرجت تجري لتبشِّر أمها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.