مقالات
الخيانة بلباس الجمهورية
يتشدّق أتباع طارق صالح "بالجمهورية"، كما لو أنهم استيقظوا فجأة ذات فجر على صوت المعركة، وقرروا أنهم أرباب الدولة وورثتها الشرعيون، وأن الشعب لا يُؤتمن على تاريخه، ولا يحق له أن يحدد هوية من يمثله، أو من يتكلم باسمه. يتحدثون عن الجمهورية كما يتحدث الكهنة عن كتبهم المقدسة، لكنهم ينسون أو يتناسون أن أول خنجر غُرس في جسد الجمهورية لم يكن بيد الحوثي، وإنما بيد من تربّى طارق في بيته، ورضع من ثدي سلطته، وتكوّن في دهاليز خياناته.
هؤلاء لا يعرفون الجمهورية. يعرفون السلطة. يعرفون الدولة حين تُجيّر لعائلتهم. يعرفون الكرسي حين يُصنع على مقاسهم. يعرفون اليمن حين تكون أرضًا للسلالة التي خرج منها طارق، لا كفكرة، لا كمشروع، لا كقضية تستحق أن يموت الإنسان لأجلها دون أن ينتظر مكافأة على الجنازة.
حين لفظت صنعاء طارق، لم يكن يملك مكانًا يعود إليه. كان كمن يسير في العراء مكشوفًا للعار، ففتحنا له أبوابنا لا حبًا فيه، ولكن لأن أمامنا خطرًا أكثر توحشًا. استقبلناه لا لأنه جديرٌ بالتحالف، ولكن لأن الحوثي، بمشروعه الإمامي العنصري، لا يترك مجالًا للتردد. اخترنا أن نغض الطرف عن الحقيقة المؤلمة، وقلنا لأنفسنا: لعلّ طارق تغير، لعلّ في داخله شظايا ندم، لعلّ الدماء التي سالت، جعلته يرى الصورة بوضوح.
لكن الذي جاء إلينا لم يكن رجلًا نادمًا، ولا قائدًا يجرُّ خلفه عبء الخطيئة. جاء كمن يحمل رايةً قديمة، رايةً لم تُغسل يومًا من دم الخيانة. لم يأتِ كمحارب، وإنما كوارثٍ يحاول أن ينتزع لنفسه موضعًا في مستقبلٍ لم يُكتب له. لم يأتِ ليقاتل الحوثي، وإنما ليُعيد رسم خريطة الماضي تحت لافتة "التحرير". كانت خطواته الأولى في الحديدة إعلانًا خفيًا عن المشروع الخبيث: استعادة الهيمنة، لا استعادة الدولة.
طارق صالح ليس الزبيري، ولا النعمان، ولا الثلايا. لا يعرف عن الجمهورية شيئًا سوى ما تبقّى من أحاديث أبيه الروحي، علي عبد الله صالح، الرجل الذي باع اليمن قطعةً قطعة، وبنى إمبراطوريته على أنقاض الكرامة. صالح، الذي ما إن خسر السلطة، حتى سلّم البلد للحوثيين انتقامًا من الشعب الذي تجرأ على كسر الوهم. صالح، الذي لم يكن في لحظة من لحظات حكمه نبيًا ولا مصلحًا، بل حيةً تسعى، وذئبًا يتحين لحظة الانقضاض.
يتحدث أتباع طارق عن صالح كما يتحدث الضالون عن أصنامهم. يمجدونه، ويغرقون في وصف "دهائه"، وكأننا أمام أحد عباقرة السياسة، لا أمام رجل دمّر مؤسسات الدولة، وجعل اليمن ساحة مفتوحة لعصابات المال والدم. هذا التمجيد ليس حبًا في التاريخ، وإنما حنين مريض إلى سلطة لا تتحقق إلا على جثث الآخرين.
طارق اليوم لا يختلف عن صورة العميد الهارب، سوى أنه بات يرتدي لباسًا عسكريًا جديدًا، ويتحدث بلسان مَن يظن أن الناس قد فقدت ذاكرتها. لكن ذاكرة الشعوب ليست قصيرة، ولا تبتلع الخيانة مرتين. من جاء من عباءة الخيانة، لا يمكنه أن يقود معركة من أجل الكرامة. ومن خرج من رحم الدولة العائلية، لا يمكنه أن يبني دولة للجميع.
نحن لم ننسَ كيف أُسقطت الجمهورية على مراحل. لم ننسَ كم مرة باع النظام السابق نفسه للقوى الكبرى، وكم مرة صمت حين كانت البلاد تُنهب وتُسحق، فقط ليبقى الحاكم على كرسيّه. وطارق، الذي تربى في حضن هذا النظام، لا يمكن أن يتحول إلى حامل لواء الثورة.
هو نفسه ما زال يحمل فكر المافيا العائلية. لم يغادر عقلية "الإقطاعي الذي يقود قبيلة"، ولا يزال يرى الدولة كحظيرة خاصة يمكنه أن يقفل أبوابها متى شاء، ويفتحها فقط لأتباعه. وها هو اليوم يُعيد تدوير خطاب الجمهورية ليجعل منها يافطة للهيمنة، لا عقدًا اجتماعيًا جامعًا.
إن أخطر ما في مشروع طارق ليس أنه مُشوّه من الداخل، بل لأنه يُعاد إنتاجه على أنه البديل، على أنه النقيض للحوثي، في حين أن كليهما يشتركان في الجذر ذاته: احتكار التمثيل، إقصاء الآخر، تحويل الوطن إلى مزرعة تخضع للأقوى، لا قانونًا يتساوى تحته الجميع.
طارق ليس جمهوريًا. الجمهوري الحقيقي هو من يدفع ثمن مواقفه، لا من ينتظر الفرصة كي يعود إلى الوراء. هو من يضع مصلحة الشعب فوق كل اعتبار، لا من يحوّل دماء الضحايا إلى بطاقة عبور نحو سلطة جديدة.
أن تكون جمهوريًا، لا يعني أن ترفع صورة المخلوع صالح، أو تقف تحت راية من راياته، أو تردد أناشيده البائسة التي كتبها له حراس السجن الكبير. أن تكون جمهوريًا بحق، يعني أن تلعن كل لحظة عشتها في ظله، أن تعلن براءتك من جمهورية القهر والدم، لا أن تزيّن مشهدك بصورة الطاغية.
وهكذا طارق صالح، يعود إلى المشهد وهو لا يزال غير قادر على قول الحقيقة: لم يعتذر، لم يعترف، لم ينبذ تاريخه الشخصي ولا تاريخ عائلته. عاد وفي يده غُصن زيتون من البلاستيك، وفي قلبه جمهورية مُفصلة على مقاس الذكريات التي بناها في بلاط القائد. يحاول أن يبدو جمهوريًا، لكنه لا يملك سوى أن يكون ظلًّا باهتًا لظلٍّ الوهم.
كيف يمكن أن نثق بمن لم يخرج بعد من عباءة عمّه؟ من لا يزال يرى في عفاش "الحكيم"، و"الضحية"، و"الرمز الخالد"؟ كيف لمَن كان جزءًا من آلة البطش، أن يتحول فجأة إلى منقذ. بأي وجه يقف في ميدان الجمهورية، وهو لم يتجرأ على أن يقول: لقد أخطأنا، لقد قتلنا، لقد سرقنا البلاد باسم الوحدة، وباسم الأمن، وباسم الكذب العظيم..!
وما نراه اليوم ليس أكثر من عملية تبييض واسعة لذاكرة متعفنة. إعلامٌ مأجور، نُخبٌ مُستأجرة، وأصوات تحاول أن تجعل من القاتل شهيدًا، ومن الحارس رئيسًا، ومن الكارثة بداية. إنهم لا يعيدون بناء الوطن، بل يعيدون رسم قفصه بلون أزرق، ويقولون لنا: هذا علم.
لكن لا، لم ننسَ. لم ننسَ السجون، ولا الاغتيالات، ولا جثث المعارضين في قارعة الطريق. لم ننسَ عشرات السنوات من الحكم الفردي، من القهر، من تدمير مؤسسات الدولة باسم التوازنات، من سحق أحلامنا على أبواب الوظيفة، والحرية، والكرامة.
من لم يحتقر تاريخ عفاش بعد، لا يمكنه الحديث عن الجمهورية. لأن الجمهورية؛ فكرة تُصان. لأن الجمهورية ليست طقمًا عسكريًا، ولا رتبةً ورثها عن عمّه، إنها موقف أخلاقي من الطغيان.
لا نريد جمهورية تُباع في المزاد السياسي، ولا وطنًا تُكتب سيرته بأقلام من لوّثوه. من لم يجرؤ على كسر صورة الطاغية، لا يمكنه أن يبني وطنًا حرًا. ومن لا يملك الشجاعة للاعتراف، لا يملك الحق في الادّعاء.
فليبحثوا عن جمهورياتهم في دهاليز الإعلام، أما نحن، فلن نحني رأس الذاكرة، ولن نصافح يدًا ما زالت ملوثة بالخراب.
كلما حاولت ابتلاع طارق عفاش كحقيقة واقعية أو كاحتمال للتصالح مع الماضي المؤلم، كانت الذاكرة ترفض ذلك، تلفظني كما تلفظ الجراح الملح، لتذكّرني بأن هذا الرجل ليس سوى جزء من المأساة، أحد صُنّاعها، الذين كانت الجمهورية بالنسبة لهم مجرد واجهة تخفي شهوة السلطة. يتحدث باسمها اليوم كمن يدّعي أنه ضحية، بينما الحقيقة تكمن في كونه قاتلها المباشر. حين يسمع المرء صدى كلمة "جمهورية" من فمه، يتداعى أمامه مشهد تعز وشوارعها التي تلوّنها القناصات، وتعود العبارة التي قالها عمه صالح المنتهي ولايته: "أصحاب تعز دقوهم بالقناصات"، لتشدد على أن طارق التلميذ المثالي في مدرسة الجريمة.
لم يدخل طارق الحرب بدافع الإيمان بالجمهورية أو حمايتها، وإنما لأن الحليف الذي شاركه السلاح والميدان لفظه، وأُغلقت أمامه بوابات صنعاء. وقف في صف الوطن كضرورة سياسية ونكاية، لا طهارة أو إخلاصًا. حين فتحنا له صدورنا، فعلنا ذلك كمن يحتضن الخطر الأكبر لينهض من تحت رماد الخراب، لم نكن سُذّجًا، كنا يائسين. اعتقدنا ربما تغيّر، لكن الذئب لا يتحول إلى حمل بتغيير الزريبة.
اليوم يُراد لنا أن نحتفل بطارق كمخلّص، أن نغفر له بالنيابة عن ضحاياه، أن نطمس ذاكرة الدم كي يبدو ظل نقيّ في زمن متسخ. لا يمكن أن يُعاد إنتاج القتلة كأبطال، لا يحق لمن نشأ وترعرع في مدرسة صالح أن يكتب سيرة الوطن، ولا لمن درّب القناصة أن يدّعي حبه للجرح. كلما حاولت فتح نافذة في ذهني لرؤية رجل تغيّر، أو مشهد جمهوري جديد، كانت التفاصيل تعود لتصفعني. يعود صوت صالح، وجه النظام الذي أسس للدمار، لم يكن الحوثي من صنع الماضي القاتم بل النظام الذي مهّد له الطريق، والذي مزّق الدولة ليبني عرشه فوق أنقاضها.
طارق لم يقاتل من أجل فكرة أو وطن، إنه من أجل ضرورة وجوده وحياته السياسية. فقد كل شيء، وتحول بقاءه إلى مرادف للتحالف مع الخارج، والموت إلى رمز للانكفاء. يقاتل من أجل بقائه السياسي، مستغلاً الجمهورية كورقة يلعب بها، مغطيًا بها فشله في تحرير الساحل الغربي أو تنفيذ وعوده. ما يدعيه هو كذبة يعرفها الجميع، فقد أصبح مستوطنًا في الساحل، لا يتحرك إلا تكريمًا لداعميه الإماراتيين، وليس لخدمة وطنه.
الآن تُعاد صياغة طارق كجمهوري، مقاتل، عائد إلى الوطن، لكن الوطن ليس فندقًا يؤوى إليه من رحيل القصر، لا بيت طاعة لمن أهانه وأهدر دمه. الذاكرة لن تسمح بنسيان أو تزوير التاريخ. لن نصنع له أيقونة في قلب الخراب الذي خلّفه صالح، الرجل الذي سلّم الدولة غنيمة، وفرّخ الطغيان في كل زاوية، أنتج نخبة تخاف وعي شعبها وتكره الناس، نموذج دولة بلا مؤسسات وسلطة بلا محاسبة.
الكارثة أن طارق لا يدين هذا الإرث، بل يحمله كجواز عبور إلى قلوب الغافلين، يحاول فرض صلح مع قاتل اليمن، أن نغفر لصالح لأن الحوثي أسوأ منه، أن نقبل النظام السابق كمرآة للخلاص لا جذر الانهيار. ليست معركة ضد شخصه فقط، بل ضد الذاكرة المصنّعة، ضد إعادة تدوير القتلة كثوار، والمجرمين كصانعي أمل.
إذا أراد طارق أن يكون جمهوريًا حقًا، فعليه البدء بالاعتراف والإدانة، كسر صورة صالح لا رفعها، التخلص من إرثه لا تغليفه. الفشل في ذلك يجعله تكرارًا مشوهًا لزمنٍ لم يعد ممكنًا، مهما تلوّنت الشعارات وتبدّلت الواجهات.
الجمهورية ليست لعبة ورقية يُلوّح بها القادمون من الغياب، أو مسرحًا لأشخاص لفظهم التاريخ، الجمهورية فعل خلخلة ووعي وتطهير، لا غد ممكن بدون إدانة، ولا غد دون كسر صنم صالح ورفض سلالة الطغيان.
الجمهورية، في جوهرها، لا تُختزل في كونها مجرد نظام سياسي أو شعار يرفع في خطابات مكشوفة، وإنما هي مشروع أخلاقي وجودي، يتطلب من كل مكوناته، من قادة وشعب، مواجهة الحقيقة القاسية بلا مواربة. هي فعل تطهير مستمر، فعل وعي يرفض كل أشكال الإنكار والتمويه. في جوهرها، هي تأريخ مستمر للتغيير لا إعادة تدوير القديم. إن محاولة إعادة إنتاج مَن كان سبب الخراب كرموز للنجاة، تفضح جهلًا أو تحايلاً على مفهوم الذاكرة الجمعية، وتكشف هشاشة الإرادة السياسية.
الذاكرة السياسية لا تُمحى ولا تُعاد كتابتها على هواً. إنها تراكم الألم، والخيانة، والبطولات، والخذلان. الجمهورية الحقيقة تبدأ من لحظة الصدق مع الذات، الاعتراف بالأخطاء، وتحميل المسؤولية، لا الانكار والتبرير. فالتطهير السياسي ليس تطهيرًا للوجوه فقط، وإنما تطهير للأفكار، للممارسات، وللأيديولوجيات التي دفنت الوطن في حفرة من الخراب.
إن رفض الاعتراف بالمسؤولية، محاولة إعادة إنتاج الرموز القديمة بوجوه جديدة، ليس سوى هروب من الحقيقة المرة، نفي لمبدأ المحاسبة، وتعميق للانقسامات بدلاً من تجاوزها. الجمهورية التي يحلم بها اليمنيون هي التي تنهض على أساس الحقيقة، لا الأوهام، على أساس التغيير الحقيقي، لا مجرد تبديل الأقنعة.
وطالما ظلت هذه المساحة مغلقة، ستبقى الجمهورية مجرد شعار ملون يختفي خلفه وجوه مألوفة، وجراح لم تلتئم، وذاكرة مصابة بمرض الزهايمر السياسي، تعيد الماضي في صور أكثر قسوة.
بإقتضاب، هذا هو وجه المأساة: أن تُسرق الجمهورية مرتين، مرة باسم الحوثي، ومرة باسم طارق.