مقالات
الدكتور المقالح.. قصة ملهمة!!
لقد كنتُ من ضمن المتحاملين على المقالح بقصد أو بدون قصد، وخاصة بعد أن ربطتني به كثير من المواقف، نتيجة التعبئة الخاطئة التي كنا نصادفها أو تصادفنا، في المراحل الأولى للتعليم، بينما نحن لم نقرأ شيئاً للمقالح لا شعراً ولا نثراً، سوى ذلك النزر القليل والنادر واليسير، من النصوص التي كنا ندرسها في المنهج المدرسي، التي لا تعطينا صورة واضحة عن صاحبها، ومن هو؟
كعادة الكتب المدرسية، ونظراً لصغر السن وحماسة المراهقة والشباب المبكر، وكان الكثير من التيارات تحاول تشويه الصورة الجميلة للمقالح، كرئيس لجامعة صنعاء وشاعر يمني ووطني وليس لديهم دلائل سوى إحدى القصائد الرمزية التي كتبها المقالح، في بداية حياته الشعرية، وبحكم أن هولاء المتطرفين لا يفهمون بالرمز ولا بغيره، فقد استطاعوا التأثير على كوادرهم المنتشرة في كل مكان مثل السرطان.
بقي المقالح راسخاً كالجبال، يرأس جامعة صنعاء، ويصدر الكتب واحداً بعد الآخر وديواناً تلو الآخر، ويستقدم كبار المتخصصين وأساتذة الجامعة من الوطن العربي كله، ومن العالم الإسلامي، وخاصة باكستان والهند لتدريس اللغات المختلفة إلى اليمن وجامعة صنعاء، وتعملقت الجامعة في زمن المقالح لتكون من أهم الجامعات العربية في الوطن العربي .
وأصبحت الجامعة قبلة لجميع النوابغ في شتى التخصصات لما يتحلى به الدكتور المقالح من تواضع وحسن تواصل مع الجميع بدون استثناء، ولعلي أصارحكم بأني كنت أحد طلاب كلية التربية في الًحُديدة، وكانت تتبع جامعة صنعاء برئاسة الدكتور المقالح، وتفاجأت، في السنة الأولى من العام الدراسي 1987م/1988م، بقدوم دكاترة وأساتذة من جامعة صنعاء في جميع التخصصات بانتظام ودقة ومكانة علمية رفيعة المستوى، وكانوا يتنقلون ما بين الكلية الناشئة في الحديدة وجامعة صنعاء على الرغم من قساوة الطقس في الحديدة، وكأننا كنا في حلم جميل وكبير نعيشه.
ومرت سنتان علينا في كلية الًتربية، وبدأنا نتعرف على المقالح كوطني وشاعر وناقد وتتلمذت على كتبه بالمعنى الدقيق والحرفي، ابتداءً من كتاب"(عمالقة عند مطلع القرن"، الذي قلبني رأساً على عقب ورسم طريقي الأدبي المستقبلي، ويتناول فيه عدد من شعراء الوطن العربي بدراسات فائضة، وكلام جديد كل الجدة ولأول مرة إلى درجة الانبهار والانصهار في شخص المقالح الأكاديمي والباحث والناقد، ومن هنا كان إعجابي المذهل بالمقالح في سنوات الجامعة الأولى، وهنا سأحكي لكم قصة لقائي الأول مع الدكتور في مكتبه بجامعة صنعاء وخروجه لملاقاتي إلى خارج مكتبه، وإمساكه بيدي وجرى إلى مكتبه، وأنه يعرفني من ألّف سنة، ولقد بكيت والله وأنا خارج من عنده، وحفاوة الاستقبال والتوديع، واهتمامه بالقضية الطلابية التي سافرت لعرضها عليه، وشكوانا المقدمة له ضد عميد الكلية آنذاك، الدكتور قاسم بريه، الذي كان يدير الكلية بيد من حديد، وللأمانة العلمية كان قاسم بريه إداري من الطراز الممتاز، وقد وصل بالكلية إلى جعلها جامعة تشمل جميع التخصصات، قبل أن يتم إقالته عام 2009م تقريباً عقب غرق عدد من طلاب كلية علوم البحار وهو أمر يشبه استقالة الدكتور المقالح من رئاسة جامعة صنعاء لاحقاً، بسبب قضية كلية الطب والسفاح آدم.
في نهاية السنة الثانية، في قسم اللغة العربية كلية التربية بالحديدة، بقيت عليّ أربع مواد تخلُف، وقررت الكلية عمل اختبار تكميلي لتصفية هذي المواد المتبقة في دور يسمى "سبتمبر" تقريباً، ونقلت الجدول واتضح لي لاحقاً أني نقلته خطأ بالتاريخ واليوم، ثم توجهت إلى القرية بحكم أني كنت متزوجاً حديثاً، وطابت الأيام والليالي هناك حتى اقترب موعد الاختبار فتوجهت إلى الحديدة، وإذا بي صباح اليوم الثاني اكتشف أني قد فوت على نفسي يومين ومادتين للاختبارات، ولحقت مادتين، وبذلك أكون قد وقعت في فخ البقاء في السنة الثانية للإعادة، مع أنها كانت سنة خير كبير لي، وبالوقت نفسه كان زملائي في الدفعة، التي بعدي، قد أبقاهم قاسم بريه في سنة أولى بسبب أن عليهم ثلاث مواد وأكثر، ولم يفعل لهم اختبارات سبتمر مثلنا، فاستغليت الفرصة، وعرضت عليهم أن أطلع أشارع قاسم بريه في جامعة صنعاء عند الدكتور المقالح، وبالوقت نفسه فرصة سانحة للتعرف عليه عن قرب، وقام الطلاب المتضررون بجمع مبالغ مالية لزوم السفر وفعلا. توجهت اليوم التالي إلى صنعاء، وفي يدي توقيعات وشكاوى كثيرة عني ونيابة عن زملائي في الدفعتين الأولى والثانية، بعد أن عجزت عن توفير رخصة مرضية عاجلة من الحديدة، أثبت لقاسم بريه أني كنت مريضاً حتى اضطريت إلى الاتصال برميله كان عمها يعمل في أحد المستشفيات ليستخرج لي إجازة مرضية عاجلة، ولكنها فهمتني غلط، واعتقدت أني ملكود بحبها وولهان فيها، بكل أسف أغلقت التلفون قبل أن أكمل حتى كلامي.. يا للأسف على الغبيات!!
بعد وصولي صنعاء، توجّهت صباحاً إلى إدارة جامعة صنعاء، التي كانت في الجامعة القديمة، وصعدت الدرج، ووصلت إلى إدارة مكتب المقالح، وأبلغوه أن طالباً قادماً من الحديدة جاء بشكوى من كلية التربية فيها، وما هي إلا لحظات حتى خرج الدكتور شخصاً معانقا كفي بكفه، ووداعته وتواضعه، الذي تشبه الملائكة، وسحبني بكل لطف الى مكتبه وأجلسني بكل ترحاب، وسمع شكواي، وأمسك بالتلفون فوراً، واتصل بقاسم بريه، واستفسر منه عن كل الأمور، فأقنعه الخبيث أن قضيتي منتهية، لأنهم قاموا بعمل اختبار حسب تعليمات جامعة صنعاء، واللجنة التي أشرفت على الموضوع، بينما زملائي مازالوا في سنة أولى، وسيجرى لهم اختبار بعد انتهاء السنة الثانية، ولم ينتهِ الأمر في حضرة المقالح، بل أبقاني إلى جواره بعد أن جاءته خاطرة، حيث رفع السماعة، وظل يملي على من يكتب له في الطرف الآخر، وأيقنت أنها كلمة صحيفة الثورة، التي كانت تصدر في الصفحة الأخيرة كل يوم ثلاثاء.
بعد انتهائه، رمقني بنظرة حب ومودة، وكانت نظارته قد نزلت قليلاً لتلامس أرنبة أنفه، وقام وقال لي: ماذا تحتاج أيضاً؟ وهل لديّ المال اللازم للسفر، فشكرته، وودعني بمثل ما استقبلني به من ترحاب وحب.
كان ذلك أول لقاء لي مع الدكتور المقالح.. وتخيلوا كم كان مؤثراً في شخصيتي من وقت مبكر.
بقيت علاقتي بالدكتور المقالح علاقة قارئ بأستاذ جامعي كبير، وكاتب وشاعر، والحقيقة التي لا أخفيها أبداً أن العمل الأكاديمي سرق منا الدكتور المقالح الناقد، ولكنه لم يسلب منه روح الشاعر.
في السنة الثالثة تقريباً، قرر الدكتور المصري طلعت أبو العزم علينا كطلاب كتاباً اسمه "الشعر اليمني المعاصر في اليمن"، تاليف الدكتور عز الدين إسماعيل، وكان المقالح قد مد المؤلف بكل النصوص والمعلومات عن الشعراء اليمنيين، الذين يستحقون الدراسة في الكتاب، مع أن هناك شعراء يبدو أن المقالح نساهم لسبب ما غير معروف، إما أن ليس بيده نصوص لهم، أو لأسباب أخرى غير معلومة للأسف.
كانت هناك مكتبة اسمها اليمن الكبرى فتحت أبوابها أمام المستشفى العسكري في الحديدة، وهو شارع خلفي لم يتنبه إليه زملائي الطلاب، ما عداي بحكم مقر سكني الذي كان قريباً، المهم في يوم تكليفنا بشراء ذلك الكتاب لقيت منه أكثر من خمسين نسخة في هذي المكتبة، فقمت بشرائها كلها بسعر خمسين ريالًاً للنسخة، بشرط ألا يطلب منها كمية إضافية من صنعاء إلا بعد أن أبيع ما اشتريته منه. وفي اليوم الثاني، وصلت القسم محملاً بكمية الكتب، وبعتها على زملائي وزميلاتي الحبيبات من سبعين ريالاً نقدأ وفوراً، ولقد كان هذا الكتاب نافذتنا المعاصرة على الشعر اليمني، وكان لكثير من الكُتاب في اليمن كتب مماثلة حول الشعر المعاصر في اليمن، ولكنها ليست بجودة ذلك الكتاب وشموليته، ولم تلق من الاهتمام في الجامعات مثل كتاب عز الدين إسماعيل، ومن أهم الذين كتبوا عن الشعر اليمني المعاصر السياسي (أحمد محمد الشامي صاحب رياح التغيير في اليمن، دكتور مخلافي - لا يحضرني اسمه-) ولاحقاً كتب الدكتور المقالح أيضاً وغيرهم كثيرون.
مرت السنوات، وبدأت مزاولة الكتابة في صحيفة احتوت كل الأقلام بعد الوحدة، ومنها كانت انطلاقتي في عالم الكتابة، ولا أنسى هنا التأكيد على تأثير الدكتور المقالح على توجهي الكتابي، وتكويني الثقافي، وتوجيهي للشخصيات الفذة، وقراءة كتبهم، وعلى رأسهم عباس محمود العقاد، الذي كدت أتقن أسلوبه في سالف الأيام، ثم مصطفى صادق الرافعي، الذي كان أهم الشخصيات التي تناولها المقالح في كتابه الشهير (عمالقة عند مطلع القرن)، وكذلك الشاعر أبو القاسم الشابي، الذي ملأ نفسي رومانسية وجمالاً.
كان للدكتور المقالح أسلوب مميز وسلس وجميل ورقيق، إلى حد أنه يكاد يكون من الشعر، وليس من لغة الباحثين، وقد تأثرت بلغته الشاعرة ورقته المهومة التي كلها شغف وعُمق.
عندما بدأت بالكتابة كمحترف تقريباً أو هاوٍ إلى حد ما، في منتصف التسعينات، وكانت أجنحة صحيفة الثقافية، وصحيفة الجمهورية اليومية في تعز، تحملنا على أجنحة التساؤلات، كنت قد كتبت دراسة كبيرة مقارنة حول البردوني والدكتور المقالح من عدة حلقات، أسميتها "العملاقان البردوني والمقالح"، وكانت تلك الأيام أصعب أيام الثقافة في اليمن، لا أدري إذا كنت قد توفقت فيها أم لا، لأني تركت الأمر للقراء، ولكن بكل أسف القراء ينسون كثيراً، لأنهم من أبناء لحظة المتعة في القراءة.
ضاقت بي الحال في الحديدة، كرهت طقسها الحار عام 2002م تقريباً، وقررت الانتقال إلى صنعاء، وكانت أكثر الاحتمالات نقل وظيفتي من التربية في الحديدة إلى مركز الدراسات والبحوث، الذي كان يرأسه الدكتور المقالح، وهنا كان لقائي الثاني والأهم به، وقد أصبحت معروفاً ككاتب، ولدي عدة إصدارات، وخاصة كتاب "الظمأ العاطفي في شعر الفضول".
مررت إلى مركز الدراسات والبحوث، وطرحت موضوعي على الزملاء، واستحسنوا الفكرة، وبعضهم رحب، والبعض الآخر حاول إحباطي، والتقيت بالدكتور، وأبلغته رغبتي بالمقيل معه، وأعطاني على الفور عنوان منزل الشاعر عبد السلام منصور، وصادف يوم ثلاثاء، وكان يومه الأسبوعي هناك.
وفعلا توجهت إلى هناك، وصعدت إلى الطيرمانة المطلة على أجزاء واسعة من صنعاء، وكان الدكتور المقالح بجواري، وكان قد بح صوتي من البرد، ولا أدري سبب ذلك، كلما طلعت صنعاء، وكانت أطول فترة لي بصنعاء، ولم يكن قد توافد الكثير إلى المقيل، وانفردت بالدكتور المقالح، وحدثته عن الكتب، التي قرأتها له وو.. إلخ، وبدأ هو بالحديث، والحش الجميل النبيل عن علاقته بالدكتور طه حسين، وشخصيته، وأيامه في القاهرة، وكأننا أصدقاء منذ زمن بعيد، وأهديته نسخة من كتابي (الظمأ العاطفي)، ولعبد السلام نسخة. وتشعب الحديث عن كثير من الأمور، وبدأ يتصفح كتابي، وفي الأخير عاد لقراءة المقدمة، فلما شاهد كاتبي المقدمة غمزه عبد السلام منصور، وأخبره أنهما أصبحا من رموز الثقافة في اليمن، والحقيقة أنني سكت تماماً لحساسية الموضوع ربما، وطلب مني الدكتور قراءة جزء من الكتاب، واعتذرت بصوتي، وفعلاً كان معدوماً، وكان مقيلاً من أجمل ما يكون لولا المقدمة، ثم قدمت له طلب نقل وظيفتي، وإذا به يأمر بشراء عشرين نسخة من كتابي، فنبهته أن الطلب هو نقل وظيفتي إلى مركز الدراسات، وليس شراء الكتب، فأمر بنفس الورقة الشاعر حسين هيثم -رحمة الله تغشاهما- باتخاذ إجراءات النقل، حسب نظام المركز.
لاحظت عليه قلة تناوله للقات، رغم جودته، وكرمه معي بالغصون الطوال.. فأشعرني بالألفة رغم كل شيء، توقعت الثلاثاء القادم أن يكتب ملاحظة حول "الظمأ العاطفي" في صحيفة الثورة كعادته، ولم يفعل، وهكذا طوال الأسابيع اللاحقة حتى سئمت، وبقي احترامي له لا يتزعزع.
في اليوم التالي، وقد بلغ مكوثي في صنعاء شهراً كاملاً، التقيت بشخص اسمه مراد ظافر، عرف برغبتي الالتحاق بالمركز، فقال: "نحن نستعد للمغادرة، وأنت عادك فرحان". فكسر نيتي تماماً. وهو اليوم في أمريكا، مما عجل برحيلي عائداً إلى الحديدة، وتركت كل شيء خلفي فعلاً، ولم ألتق بالدكتور المقالح سوى مرات قليلة في مركز الدراسات، وقد أصبح متعباً للغاية -رحمة الله تغشاه.
الدكتور المقالح شاعر وناقد وإنسان ووطني أمر لاجدال فيه، ولا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح عنزان.
وتبقى كتبه ودواوينه وأعماله شاهدة له وعليه لأجيال من المثقفين اليمنيين والعرب القادمين للبحث عن وهج الحقيقة.