مقالات
الشتاء صديق التجمعات الإنسانية
هناك الكثير من المناوشات بين أنصار وأعداء الشتاء، ولا شك أن أعداء الشتاء هم موالعة القات وما أكثرهم في اليمن بكل أسف. وأعداء الشتاء هؤلاء موزعون على كامل الجغرافيا اليمنية، ونستثني المناطق المتصلة بتهامة مثل حجة وبلاد الشام، حيث يزدهر القات الشامي بأنواعه المختلفة؛ الشماخ الذي يذهب للتهريب، والبلوط وهو اسم الدلع للقات المفصل أو أبو حكال، وتم تغيير طوله تهربا من الضرائب.
أعداء الشتاء غريبو الأطوار، يهربون من البرد مهما بلغت تكاليف سفرهم وترحالهم. وتبدو هذه الأيام مدينة الحديدة مليئة بالأثرياء الجدد الذين يتنعمون بشواطئ المدينة الدافئة وفنادقها المطلة على الساحل، وتمتلئ المتنزهات التجارية التي تم الاستحواذ عليها. ولم يتبق من الشريط الساحلي المجاني إلا القليل، وهو في غاية الإهمال سواء في خط الكثيب أو الدوار.
الجميع هذا العام يشتكون من قوة البرد والصقيع في صنعاء وما حولها حتى يريم والحيمتين. وجبل صبر يشبه تماما برد صنعاء إن لم يكن أقوى لأنه محسوب على الريف وليس المدن، وكذلك مدينة التربة. وأذكر أولئك الذين كانوا يستعدون للسفر من النشمة إلى التربة في فصل الشتاء وهم يتحصنون بدروع الثياب لمواجهة برد التربة وذبحان، في حال كان لديهم شريعة أو تحسبا للحبس هناك، حيث كان الحاكم زيديا والقاضي زيديا ومدير عام الحجرية زيديا، ولم تكن المشاكل كما هو الحال اليوم بعد أن أصبح المسؤولون من أبناء الحجرية على سبيل المثال.
هذا البرد قد يذهب بنا إلى فتح موضوعات لا ينبغي التطرق إليها في الوقت الحاضر.
ولكن البرد في مخيلتي أنا ككاتب حين كنت طالبا في القرية ارتبط بذكريات عزيزة وأنا أقوم في وقت مبكر في عز البرد، والشمس تطل من خلف الجبال وهي تسكب أشعتها الذهبية الدافئة، وأنا في طريقي إلى المدرسة البعيدة التي كانت تستغرق مني ساعة للوصول إليها. وكانت الليالي الباردة تستحث الإنسان على النوم مبكرا ليحظى بدفء البطانيات والاستعداد ليوم جديد مفعم بالأمل الكبير بمستقبل باهر.
أما شهور البرد في مدينة مثل الحديدة فهي تمر كحلم جميل عابر، تبدأ من بداية نوفمبر وتنتهي في شهر فبراير، حين يتقلب مارس وأبريل بين الرياح والاستعداد لشهور العذاب السبعة، حيث تتحول الحديدة وعموم تهامة إلى جحيم حقيقي لا يمكن مقارنته بجغرافيا أخرى سوى جغرافية مدينة عدن ذات المناخ الجاف حتى المهرة.
كنا ندرس بأن اليمن متنوعة المناخ، وهذا يجذب إليها أعدادا هائلة من السياح من مختلف دول العالم. ولكن كبرنا على حقيقة أخرى، وأعتقد سيكبر أولادنا وأحفادنا على حقيقة أن اليمني صار غير قادر على السياحة داخل وطنه، ناهيك عن السفر والتنقل بكامل حريته وإرادته، حيث تحولت فكرة السفر إلى عذاب وخوف وشكوك قد تصل إلى حد الاعتقالات والإخفاء القسري.
القاهرة التي أنجبت أعدادا هائلة من المبدعين في مجالات الحياة والفن والفكر والعلوم، بردها أعظم من برد صنعاء بحكم الجغرافيا. ولذلك أنجبت الجغرافيا التي تميزت بالبرد والصقيع والثلوج إبداعات العالم الصناعي والمعرفي.
وهذا يقودنا إلى أن البرد ملهم للإبداع، وتتجلى هذه الإلهامات في شعر البردوني، الذي نجد في كثير من أعماله بحثا عن الدفء بين المفردات ومعاطف القصائد. إلى درجة أن القارئ لبعض قصائده يشعر بالدفء وهو يقلب دواوينه ويسافر في قصائده، مثل تلك التي تحمل عناوين صنعاء وبساتينها وفاتناتها، أو قصيدته التي يعارض فيها المتنبي والنواسي، أو يؤرخ لابن مفرغ الحميري، أو تلك التي يشتهي فيها غداء موجزا وحزمة صغرى من القات الرحابي.
ولكننا لا نستغرب من البردوني حين يهتم بديوان ابن هتيمل وابن القم على تشيعهما غير المتعصب.
وهنا لا نشك أن البرد عدو للفقراء الذين كثروا خلال السنوات الأخيرة، ولم يعودوا يجدون مساكن سوى الأرصفة ونواصي الشوارع وتحت الجسور. هؤلاء معهم حق حين يخافون الشتاء، أما موالعة القات فتبا لهم جميعا بلا استثناء.
قبل أيام كنت واقفا أمام بائع قات وهو يلعن صاحب الجربة التي وصل منها القات، واصفا إياها بالسم القاتل، إلى درجة أنني تواريت خجلا، مبتعدا من غبائنا وإلقائنا بأنفسنا في تهلكة السموم والمبيدات كل يوم. ولذلك قررنا مع مجموعة من العقلاء التوقف تماما عن هذه النبتة الشيطانية التي نطاردها في النهار وتطاردنا في الليل فيما تبقى لنا من أعمار.
في صنعاء، وفي شارع المطاعم خاصة، يتجمع اليمنيون للحصول على الدفء على مقاعد مطعم البوري وزبائن الخبز الطاوة والمطبقية، وذلك الزحام العظيم حول كتالي الشاي عند مقهى المدهش، وذلك التنوع الإنساني الرهيب في ساحة التحرير. زحام تشعر فيه كم هي الحياة جميلة بهؤلاء الناس المتعايشين رغم القمع والجبروت.