مقالات
الشوعي عبد الكريم والشوعية تغريد (٥)
بعد خروج البنت تغريد وأمها من العُشّة، وذهابهما إلى عشتهما، فتحتُ الكتاب: "بيان الحزب الشيوعي"، وقرأت أول جملة في أول صفحة: "هناك شبح يجول في أوروبا هو شبح الشيوعية، وقد اتحدت كل قوى أوروبا العجوز في حلف مقدَّس لملاحقته والتضييق عليه".
وشعرتُ، وأنا أقرأ هذه الجملة، بقشعريرة تسري في كامل جسدي. ثم وقد رحت أواصل القراءة، شعرتُ بأن الفقر والظلم والاستغلال، وكل أشكال القهر في تهامة، سوف تستدعي شبح الشيوعية، وأن أبناء تهامة هم أول من سيعتنق الفكر الاشتراكي والشيوعي، وأول من سيثور ويعلن الثورة.
وعندما قرأت في البيان: "إن الطبقة العاملة في ثورتها ضد الطبقة البورجوازية لن تخسر سوى قيودها وأغلالها"، أعجبتني هذه العِبارة القوية، وأسقطتها على تهامة، وقلت أحدِّث نفسي: "إن أبناء تهامة، حين يثورون ضد مستغليهم، لن يخسروا سوى قيودهم وأغلالهم".
وخُيِّل إليّ ليلتها، وأنا أقرأ بيان الحزب الشيوعي داخل العُشة، في قرية صيادين فقراء، أن هذا البيان كتبه ماركس وإنجلز خصيصًا لأبناء تهامة، وأن الثورة ضد المستبدين والمستغلين سوف تندلع، أول ما تندلع، في تهامة.
وكان صوت البحر يفاقم من إحساسي بقرب اندلاعها.
ولشدة إعجابي بالبيان، قرأته كاملًا ولخّصته ووقعت تحت تأثيره، وكان قد سحرني وهز مشاعري وأثّر فيّ، وليلتها نمت وأنا "شوعي".
وفي صباح اليوم التالي، وقد نهضت من نومي، سمعتُ صوت البنت تغريد تناديني، وحين فتحت لها باب العُشة، دخلت ومعها الصبوح (فتة دخن بالحليب والسمن)، وكان أطعم وألذ صبوح تناولته منذ وصولي الحديدة.
وبعد أن أكلت وشبعت، سألتها عن اسم أبيها: "ما اسم أبوكِ يا تغريد؟".
قالت لي: "اسمه شوعي".
وظننتُ من جوابها أنها لم تفهم السؤال، وقلت لها:
"أبوكِ، أبوكِ، أيش اسمه؟".
قالت: "اسمه شوعي".
ولم أجرؤ أن أسألها للمرة الثالثة حتى لا تظن بأني غبي، أو أن اسم أبيها لم يعجبني.
وفيما بعد، وهي غير موجودة، سألت أمها عن اسم المرحوم زوجها، فقالت لي:"اسمه شوعي".
وسألتها عمّا إذا كان هذا الاسم شائعًا في تهامة، فقالت إنه شائع، وأنهم يسمّون الذكور شوعي والإناث شوعية.
ويومها صرت على يقين من أن تهامة بيئة صالحة للشيوعية، وأن الشيوعية فيما لو وصلت إلى تهامة، ستجد من يرحّب بها ويحتضنها، ولن تجد أي مقاومة.
وفي الاجتماع الحزبي، وبعد أن قدّمتُ تلخيصًا مكتوبًا لبيان الحزب الشيوعي، رحتُ أتفلسف وقلت يومها كلامًا غبيًا، وفي منتهى الغباء:
"الاسم شوعي المنتشر في تهامة بين الذكور، واسم شوعية المنتشر بين الإناث، دليل على أن تهامة عرفت الشيوعية بشكلها البدائي الموجود في المشاعية البدائية".
وكان كلامي الأهبل هذا قد أذهل المسؤول الحزبي، واعتبره اكتشافًا، وراح يسجّل ما قلته لكي يرفعه إلى لجنة المحافظة، أو ربما إلى اللجنة المركزية. ولم يكن المسؤول الحزبي ولا الرفاق الذين معي في الحلقة نفسها قد سمعوا بالاسم شوعي وشوعية، لذلك بدوا مذهولين من "اكتشافي".
وكنتُ قد توصلت إلى هذا "الاكتشاف العظيم" بعد انتقالي من المتن إلى الهامش، من قلب مدينة الحديدة حيث التجار والأغنياء، إلى خارج المدينة حيث الفقر والفقراء.
وأذكر أنني، بعد خروجي من الاجتماع الحزبي، فكرتُ في البنت تغريد وأمها، وقلت أشتري لهما هدية كونهما السبب في هذا "الاكتشاف العظيم" الذي أبهر مسؤولي الحزبي وأبهر رفاقي.
وعلى طريقي، اشتريت أساور وأقراطًا من صنع الصين الشيوعية. وكانت أساور وأقراط الأم باللون الأزرق، وأما أساور وأقراط البنت تغريد فكانت حمراء بلون الشيوعية.
ومع أنها كانت من العاج، ورخيصة مثل كل السلع الصينية، إلا أن البنت تغريد وأمها فرحتا بهديتي فرحًا عظيمًا كما لو أنها أساور وأقراط من ذهب.
وفي اليوم التالي، وكان يوم خميس، أخذت عشاءً من "مطعم الفيلق"، واشتريت "القات" للسَّمْرة.
وبعد أن تعشّينا في عُشّتي، ذهبت تغريد وأمها إلى عُشّتهما، ولبستا أفضل ما عندهما من لباس، وتزيّنتا بالأقراط والأساور التي أهديتها لهما.
وعندما دخلتا العُشّة، تفاجأتُ بأناقتهما، وكانت تلك أول مرة تدخلان فيها إلى عُشتي وهما بملابس جميلة وأنيقة وبكامل زينتهما.
وكان قرطا البنت تغريد بلونهما الأحمر أشبه ما يكون بجمرتين معلّقتين في أذنيها. وكنتُ كلما نظرت إليها وإلى قرطيها تتسارع دقات قلبي ويتعاظم حبي لها، وقلت بيني وبين نفسي، وأنا تحت تأثير سحر البيان الشيوعي: "ليش ما أكسب تغريد للحزب، ويكون اسمها الحزبي: شوعية؟!!".
وسرعان ما أعجبتني فكرة كسب تغريد للحزب الديمقراطي، خصوصًا وأنني منذ التحاقي بالحزب لم أكسب عضوًا جديدًا، ولم يكن عندي الحماس للكسب.
وفيما كان كل واحد من رفاقي قد كسب واستقطب أكثر من عضو للحزب، كنت أنا في كل اجتماع حزبي أفتضح وأنكشف وأتعرّض للنقد بسبب تقصيري في الكسب والاستقطاب.
ولكثرة ما كنت أتعرَّض للنقد، كنت أتذمَّر وأقول بيني وبين نفسي:
"قد دخلت الحزب وودّفت، وعادهم يشتونا أودّف بٱخرين!".
وفي واحد من الاجتماعات، وقد "زاد الماء على الطحين"، سألت المسؤول الحزبي، وقلت له:
"هل الأمر عادي لو كسبت فتاة للحزب؟!".
فكان أن اندهش، وقال لي: "طبعًا..".
وسألني عن الفتاة التي أريد أن أكسبها للحزب، وهل هي متعلّمة؟ فقلت له إنها أُمِيَّة، وغير متعلمة وتشتغل بالصيد.
وحين قلت له إنها تشتغل بالصيد، قال لي:
"هل تبيع سمك بالمحوات؟!".
قلت: "معها قارب وتدخل البحر تصيد السمك بنفسها".
وحينها استغرب واندهش، وقال إن وجود فتاة صيّادة وعضوة في حزبنا يُعد مكسبًا كبيرًا للحزب حتى لو كانت أُمِيّة. وراح يشجّعني على "اصطيادها".