مقالات

العلم يخسر والحرب تربح

01/11/2024, 07:18:09

أتذكر، في أول يوم دراسي ذهبت فيه إلى الجامعة، أن أحد الدكاترة العرب، حسام الخطيب (سوري من أصول فلسطينية)، سألنا ونحن في قاعة الدرس: هل تعرفون على ماذا يقوم العلم اليوم؟ وكانت الإجابات متفرّقة وعميقة أحياناً، إلى أن قال أحد الطلاب: يعتمد العلم اليوم على الأبحاث العلمية، التي يقوم بها أساتذة على درجة من التفوق، وينشرون هذه الأبحاث في مجلات وكُتب صادرة عن مراكزهم البحثية، التي يعملون فيها..

أتذكر ذلك اليوم بعد أن توسَّعت المراكز البحثية العالمية، وتطوّرت؟ وأصبح إنتاجها متاحاً في المواقع الإلكترونية والفضاء السيبراني، وأصبح الحصول على المعلومة يأتيك بضغطة زر، وأحياناً بمقابل مادي؛ فالمعرفة سلطة و"من يملك المعرفة يمتلك السلطة" -على حد تعبير إدوارد سعيد.  
في بداية سبعينات القرن الماضي، وبعد استقرار العملية الثورية، التي قام بها ثوار 26 سبتمبر 1962، وبعد عقد مصالحة يمنية، توالت الاستعدادات لبناء دولة المؤسسات اليمنية، وإن في حدودها الدنيا، وذلك في كلٍ من صنعاء وعدن بعد الاستقلال، وكان من ثمار ذلك مجانية التعليم، والتنافس في بناء المدارس الكبيرة والجامعات الأكاديمية، التي تستوعب جموح اليمنيين وتطلعهم إلى مستقبل أفضل.

وتم الاهتمام بالعمل النقابي والنشر الصحفي والثقافي، فكان اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين، وكانت نقابة الصحفيين، ومركز الدراسات والبحوث اليمني، الذي تأسس بقرار من مجلس الوزراء يومها في عام 1972، ليكون أول مركز بحثي في الجزيرة العربية، وتوالى على رئاسته أهم رجال التنوير في اليمن؛ ومنهم: أحمد جابر عفيف، والأستاذ أحمد حسين المروني، والدكتور الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح (1939- 2022)، الذي أصبح مركز الدراسات في عهده من أهم المنشآت التي تفخر بها اليمن؛ بسبب قيمة الأبحاث المُحكمة التي يشرف عليها، وتصدرها مجلة المركز "دراسات يمنية"، وقيمة الأبحاث الميدانية والندوات والمهرجانات الموثقة في كراسات تصدر عن مجموع الدوائر البحثية في المركز، ومن هذه الدوائر: دائرة الترجمة، والدائرة الاقتصادية، والدائرة السياسية، والدائرة الاجتماعية، ودائرة التراث، والدائرة التاريخية، والدائرة الأدبية، التي عملت فيها منذ 2009، وكان يرأسها الشاعر عبدالودود سيف، وأعقبه الشاعر أحمد الزراعي.

وهي -لعمري- كما نرى دوائر فريدة ساهمت بشكل جدي في العطاء، وكان بالإمكان استثمار خبرات باحثيها من أجل النهوض بالمجتمع والدولة اليمنية المنشودة.

حرص الدكتور عبدالعزيز المقالح، الذي رأس المركز لعدة عقود، على إضفاء طابع الأكاديمية البحثية المرتبطة بالقواعد العلمية في المركز، فأنشأ مجلسا علميا يضم فيه مجموعة من الكفاءات التي كانت تساعده في اختيار القرارات العلمية والإدارية والبحثية، وهو المجلس الذي يُعقد كل ثلاثين يوماً، وعند الحالات المُلحة من أجل تسيير القرارات العالقة والمهمّة.

اجتذب الدكتور إلى الدوائر البحثية أهم الكوادر اليمنية الجادة القادرة على العطاء؛ ومنهم قامات إبداعية كبيرة ساهمت في حل الكثير من الإشكاليات المتعلقة بالفكر والأدب والفلسفة، ومنهم الشاعر عبدالكريم الرازحي، والصحفي القدير عبدالباري طاهر، والباحث قادري أحمد حيدر، والمبدعة أروى عبده عثمان، والمترجمة بلقيس الحضراني، والباحث أحمد الجبلي، والروائي محمد مثنى، والشاعران مأمون سلطان وتوفيق القباطي، والقائمة طويلة، فليعذرني من لم أتذكرهم في هذه العجالة.

فبالإضافة إلى أن المركز قدّم حضناً دافئاً للباحثين؛ رأينا الشكل الموازي للعملية البحثية مكوناً في مكتبة مركز الدراسات والبحوث اليمني، فهي من أعرق المكتبات الخدمية في المدينة، وكان روادها -قبل الحرب- يومياً بالعشرات، فهي مكتبة وطنية بكل ما تعني الكلمة؛ لأنها تحتوي على أرشيف متكامل من كتابات المؤرّخين والمفكرين والثوّار والكُتاب اليمنيين والعرب والأجانب مَن قدموا أبحاثا قيّمة؛ بعضها لم يترجم إلى اليوم، لذا فهي -حتى الساعة- ما زالت قُبلة طلاب الجامعات اليمنية والباحثين والكُتاب، ورغم الإمكانات الشحيحة والظروف القاسية فإنها مفتوحة أمام المريدين، والمرتادين.    

إن عدم استيعاب مركز الدراسات والبحوث اليمني، وتجاهل العمل على تطويره، يُعدانِ خطأ فادحا لا يقل مأساوية عما تفعله الحرب، بل أخطر من ذلك، فإذا كانت الحرب تأكل الأجساد فإن إلغاء البحث العلمي لا يعني سوى اغتيال العقل، وقتل قيمة الإنسان في الحرية والفكر والحركة.

وأود أن أشير إلى حادثة مشابهه وقعت في جامعة "كيب تاون"، في أكتوبر 2016، حيث رفع بعض  الطلاب الأصوليين في هذه الجامعة شعارا عنوانه "فليسقط العلم"؛ لأن لديهم فكرة تحرير العلم من الاستعمار، والحقيقة أن ذلك -في ظاهره- صحيح، ولكن في باطنه إشارة إلى مناورة ضد العلم؛ لأن العلم دائماً مع الحقيقة، وكان بإمكانهم الاستفادة مما وصل إليه البحث في دوائرهم، وبالتالي تطويع ذلك في ما يخدم مجتمعهم علمياً.

فالعلم كما نعرف جميعاً محايد يقوم على قواعد يدعمها العقل، لماذا لا نستفيد من المنجز الذي كوّنته الخبرة التراكمية بدلاً من تحطيم المنجز استجابة لنزوة عابرة؟ لماذا نهدم المعبد إذا كان قد بُني في الأساس من أجل الصلاة؟

إن الهدم، الذي تم توجيهه إلى صرح كبير مثل مركز الدراسات، لا يعني سوى التقليل من كفاءة الذين قاموا بإنشائه، وأولئك الذين عملوا فيه كباحثين وعلماء وقادة فكر وإبداع، فبدلا من الاستفادة من خبراتهم في تطوير الحياة تم تجاهلهم، وهو ما يعني إهدار كثير من الثروة التي تراكمت عبر الزمن؛ وهو ما يعني أيضاً أن معادلة: العلم يخسر والحرب تربح - الوهم والدمار - صحيحة؛ لأنه ما من حرب إلا وخسرت الغالي والنفيس، وخسارة مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي كان "فنارا" مشهودا للتائهين بدت واضحة أمام من اتخذ قرار تصفيته في حكومة صنعاء اليوم، ومن ظل يتفرّج على ذلك بصمت.

إن وجود مراكز الأبحاث -عادةً- يرتبط بالحياة الذكية، والابتعاد عن هذا النوع من المراكز لا يعني سوى التكريس المطلق للخرافة، والتغييب المطلق للتفكير بالمستقبل، ومن دون شك فإن الأمم التي تُعمِلُ العقل تتخذ من المراكز البحثية أداة لحل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإن مثل هذه المعضلات لا يمكن حلها بالتجاهل؛ لأنها تتفاقم مع مرور الوقت.

أقول: إن ما يمكن الإشارة إليه أن الكثير من التداعيات والأمراض المجتمعية والسياسية والثقافية ترصدها المراكز البحثية، وحلها يأتي سريعاً، والكثير من المسائل المطروحة تظل قيد الدراسة والملاحظة والتراكم التقني والحُجج البليغة.

إن أكثر ما يحز في النفس أن مركز الدراسات -بإدارة الدكتور عبدالعزيز المقالح- كان قلعة بحثية صدت وحذّرت وفنّدت أمراض الحقبة الإمامية، وبين الفينة والفينة كان مركز الدراسات يقيم الندوات والفعاليات التي تصوّب مسار الثورة اليمنية 26 سبتمبر، وتوثّق لرموز الثورة ولإسهاماتهم اللامحدودة، وكان القصد من ذلك إيصال فكرة السير في اتجاه المستقبل وليس القبول بالعودة إلى الخلف؛ لأن العودة إلى الخلف -في ذهنية الثوار- لا تعني سوى رفض الحداثة والدستور والقانون والتعليم، وبالتالي الارتماء في أحضان الحرب -كما نرى اليوم.

ومما أتذكره أنني سألت رئيس المركز قائلاً: أين تذهب الأبحاث التي قام بها المركز؟

فأجابني: "إن أخطر ما واجهنا من إحباط هو أن كثيراً من الأبحاث، التي تم إنجازها في ظروف من الصعوبة وغياب الإمكانيات الكافية، ما تزال نائمة في أدراج بعض الوزارات، ولا تجد من ينفض عنها الغبار".

والحقيقة أنه رد على تساؤلي في إحدى كُراسات المركز.. لقد كان الأمل -عند جيل الثورة- معقودا على طوير البحث والأخذ بنتائجه.

مقالات

ما الذي ننتظره كيمنيين؟!

يعيش اليمن واليمنيون -جُلُّ اليمنيين- كارثةً محققة. والمصيبة، ونحن في جحيم الكارثة، ننتظر -بسلبية- فاجعةً تُلوِّح بالمزيد والمزيد! جُلُّ المحافظات الشمالية تحت سيطرة مليشيات أنصار الله (الحوثيين)، وتعز (المدينة) تحت سيطرة مليشيات التجمع اليمني للإصلاح والشرعية، أمَّا ريفها فموزع على أكثر من طرف، ومأرب (المدينة) تحت نفوذ الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام، وريفها موزع على كل أطراف الصراع.

مقالات

الكتابة فوق حقول الألغام

الكتابة في اليمن لم تعد نزهة أو فسحة جميلة مع القلم والموهبة والابداع لأي كاتب خلال السنوات الأخيرة ، سواء كانت شعرا أو نثرا ، لقد تقلصت مساحات الحرية وتم شطب الهامش الديمقراطي الزائف الذي كان يتبجح به السابقون .

مقالات

كيف يقرأ اليمنيون ما يحدث في سوريا؟

أراح سقوط نظام حكم "آل الأسد" في سوريا بال كثيرين حول العالم بالنظر إلى العبء الضخم، الذي شكَّله بقاء ذلك النظام بسياساته الداخلية اللا مسؤولة، أو تحالفاته الخارجية، التي لا تخدم المصلحة الوطنية لسوريا.

مقالات

من ينصف اليمنيين؟

ما هو معروف، ويدركه خبراء السياسة والقانون، أن أي دولة تدخل تحت البند السابع لا بُد ما يكون لها معايير وشروط ومواثيق دولية يجب الالتزام بها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.