مقالات
المشهد.. والصورة
تجاوز بنا الزمن - قبل بضعة أيام - ذكرى قيام دولة الوحدة اليمنية.
هذا ما تذكّرته فجأة مؤخراً، وكأنّني لم أكن ذا علاقة البتة بما حدث ذلك اليوم!
ثلاثة عقود وعامان مرت على ذلك اليوم، وتلك الوقفة المتوهّجة تحت حرارة الشمس وجلالة الموقف، ونحن نتطلَّع إلى علمٍ جديد معلناً عن دولةٍ جديدة، لطالما تاق اليمنيون لمرآه ومرآها.
تهيَّأتُ منذ الصباح الباكر للذهاب إلى تلك التلَّة، حيث تنتصب سارية العَلَم، بل حيث تنتصب أحلامنا الجديدة وآلامنا القديمة، في مقابلة تاريخية لم نكن لنتوقّع حدوثها على هذا النحو من الاستثنائية، في صباح ذلك الاثنين 22 مايو 1990م.
وقد سبق لي أن تناولت هذا المشهد بالكتابة قبل عدة سنوات.
كان الصباح نديَّاً برغم حرارة الطقس ورطوبة الجو. قلتُ لزميلي وصديقي المُصوّر الرئاسي ناشر سيف: إيّاك أن تنسى تصويري في لحظة ارتفاع العلم. قال: لا تخشَ ذلك. ثم نسيَ اللحظة في غمرة المشاعر المُتأجّجة والمختلَطة بالضحكات والدموع والتصفيق.
كنا نرنوا لحظتها إلى الأعلى، حيث قمة السارية وذروة الحلم. كنا نرنوا لحظتها إلى الأعلى، ثم انتبهتُ بعد مرور بضعة أعوام أننا صرنا نرنوا إلى الأسفل.
وبعد مرور بضعة أعوام تالية التقيتُ الضابط الشاب الذي رفع العلم لحظتها.
التقيته يستعد لصلاة الجمعة على قارعة طريق الشارع الرئيسي في حيّ المعلا، حيث أقطن.
التقيته لا يقوى على رفع رأسه، وقد أطلق لحيته للريح ومصيره للمجهول.
ثلاثون عاماً وأكثر مرت كأنّها البارحة، بل كأنّها منذ ساعةٍ مضت. غير أن مياهاً وفيرة ودموعاً غزيرة ودماءً كثيرة تدفقت تحت جسور تلك الأعوام الكثيرات الكبيرات، على نحوٍ لم نكن نتوقّع حدوثه قط في تلك اللحظة التي كنا فيها نرنوا إلى الأعلى، حيث قمة السارية وذروة أحلامنا.
بحثتُ عن الصورة فلم أجدها. بحثت عن الحلم فلم أجده. وبحثت عن قُصاصة ورق كتبتُ عليها في تلك اللحظة آخر تأوُّهات عهد وأول توهُّجات عهدٍ آخر. لكنني وجدتُ كثيراً من الملفات السوداء والرمادية، تراكمت طوال ثلاثة عقود في واقعٍ مغايرٍ بالمطلق لما كنا نعيشه قبل تلك اللحظة، على صعيد الحلم الذي صار كابوساً والعَلَم الذي استحال إلى خرقة!
نظرتُ إلى الصورة التاريخية، التي تداولتها كل الصحف، والكتب التي وثَّقت لذلك المشهد التاريخي في ذلك اليوم الاستثنائي.
نظرتُ إليها مليَّاً، وتطلَّعتُ في الوجوه والعيون والأيدي، فرأيتُ أصحابها - رفاق تلك اللحظة وشركاء ذلك الحدث - قد ذهبوا مذاهبَ شتى لا تلتقي في اسم أو فعل مشترك سوى الخيانة، خيانة تلك اللحظة التاريخية!
ثمة القاتل إلى جوار القتيل، والسارق بجانب المسروق، والهارب واللاجئ والسجان والمسجون والمهرج والبائع والشاري والضائع. وإذا بالصورة التي نسيَ زميلي المصور أن يضعني فيها قد صارت وثيقة إدانة للخيانة، بعد أن كانت وثيقة مجد وخلود وسؤدد وبشارة.
تضاربتْ مشاعري حينها. هل تراني مغتبطاً لأنني لم أكن في قلب الصورة، برغم أنني كنت في قلب المشهد؟ .. أم تراني حزيناً لأنني لم أكن شاهداً على وثيقة الخيانة؟