مقالات
النائحون حول جثة الزعيم..!
كلّما مرّت ذكرى جديدة لمقتل عفاش، يخرج علينا ثلة من النائحين عليه، يستجرون فضائله المزعومة، ويذكروننا بزمانه الذهبي، يعقدون المقارنات بين عهده وما جاء بعده، حجتهم الأساسية في كيل المدائح له هو أن الزمن الذي تلاه كان أشد جحيماً وأكثر سوداوية، وتلك مقارنة مغلوطة ومسطّحة، تفضح زيف فضائله بأكثر ما تستر رذائله.
في بداية الأمر، حين تبحث عن مزايا لعهد ما مقارنة بعهد لاحق أسوأ، فالأمر يحمل اقراراً مبدئياً أن العهد الأول كان سيئاً أيضا، وأنك فقط تقارن بين زمانيين متماثلين في الطبيعة وربما مختلفين في درجة السوء فحسب؛ لكأنّ عفاش هنا مجرد من الفضيلة-وهو كذلك بالطبع- وليس أمامكم من حيلة لتلميع جثته سوى بالذهاب نحو عهد آخر متفسخ؛ كي تفتشوا له بين أكوام الجثث وبحيرات الدّم عن مزية تسبغ عليه قدرا من القبول، إنهم يقتاتون من سوء الزمن اللاحق له؛ كي يستعيدوا شيئا من بريقه الزائل، وينفخون في جثته المتحللة. ومع كل هذه المحاولات البائسة لإعادة الاعتبار للرجل، فلا أظنّكم تنجحون.
إن قولك إن عفاش كان سيئا ولكن سوءه أقل ممن جاء بعده، هو أيضا حكم غير دقيق، إنها مقارنة شعبوية لا تراعي الفروق بين الزمنيين، فالرجل حكم في ظرف مستقر جدا، لم يُتح لأي رئيس يمني قبله ولا بعده، طوال عُمر الدولة اليمنية الحديثة، وكان أمامه فرصة تاريخية لتأسيس دولة حقيقية ناهضة، حيث الساحة خالية له تماماً ووحده متحكم بكل مفاصل السلطة، ومع هذا لم يورّث لنا سوى ملامح دولة هشّة انهارت مع أول هزّة تعرّضت لها سلطته.
إن الوضع السيّئ، الذي جاء بعد خروج صالح الشكلي من السلطة، هو أمر يدينه أكثر ممّا يشفع له، أي أن هذا الواقع الكارثي، الذي نعيشه اليوم، لا يصح ليكون منطلقاً يستدل به أتباع عفاش على أن زمنه كان جيداً، بل إنه حُجة عكسية تدين زمنه؛ فالأمر دليل إضافي يؤكد أن خروج الناس ضده كان خروجاً مبرراً، فالرجل لم يبنِ لنا مؤسسات دولة قادرة على الصمود بعد رحيله، بل كانت البلاد أشبه بحظيرة تابعة له، ما إن ذهب للإقامة في بيته، انساقت المؤسسات الضامنة للبلاد خلفه، وأتاحت له استخدامها لتخريب الوضع على من جاءوا بعده.
لقد كان الثعبان يهدد دائماً أن البلاد ستتعرض للتشظي بعده، وسيفقد اليمنيون الاستقرار، لم يكن عفاش ملاكاً نافذ البصيرة، ويمارس نوعاً من النبوّة، بل دجالًا يعرف نفسه جيداً، ويعرف هشاشة ما بناه، فطوال عقود حكمه جمع خيوط الدولة كلها في قبضته، وحكم البلاد بالمحسوبية والولاءات الشخصية والمداراة القبلية، أنتج لنا نظاماً يحمل عناصر انفجاره داخله، وما إن شعر بأن البساط يُسحب من تحت قدميه، أشعل النار في أثواب البلاد وانتهى به الأمر صريعاً بالنار ذاتها التي ساعد على نفخها.
صحيح أن من جاءوا بعد عفاش لم يتمكنوا من الإمساك بمفاصل السلطة جيداً، لكن فشلهم في فعل الصواب لا يساوي جرمه في فعل الخطأ، كما أن قلة خبرتهم وعجزهم عن تجريده من أدوات النفوذ، لا يجعل من ذكائه في الاحتفاظ بها مصدراً للشرف، فلا شرف في نجاحه بالتدبير للجريمة (جريمة إسقاط الدولة)، وليس في النقمة من الخصوم ما يعزز فضيلته، كما أن موته على يد حلفائه في الإجرام لا يغسله من جرائمه.
حسناً، إنني أتفهم موقف الكُهول والعجزة وكبار السن عموماً، حين أجد بعضهم ينتحبون في ذكرى مقتل عفاش، أفهم طبيعتهم النفسية، فهم أقوام وُلدوا في زمن خوف ومجاعة، وكانت الحياة متدنية بشكل عام، ثم ترافق حكم عفاش مع ارتفاع مستوى الحياة، ولم يكن الأمر ناتجاً عن نهضة محلية بقدر ما هو نتاج تطوّر الحضارة على مستوى الكوكب، بما تركه الأمر من تحسن ملحوظ في طبيعة العيش، هذا الأمر سرّب وعي بدائي لهؤلاء الكهول، حيث اعتقدوا أن السبب هو حكم عفاش، فنشأ بينهم وبينه ما يشبه الرابط النفسي، باعتبار الرجل هو من أمّنهم من المهددات المعيشية وأزاح الخوف عن صدورهم.
لكنني أشعر بالخيبة حين أجد شباباً وُلدوا في واقع تضج فيه الحياة على مستوى الكوكب، حيث العالم صار قرية كونية واحدة، ويلاحظون كيف تعيش دول العالم، ومع هذا تجدهم يتوارثون الرؤية البدائية نفسها لزمن عفاش، يعتقدون أنه كان نموذجاً جيداً للحُكم، هذا الأمر يمثل خسارة فادحة في الوعي الحديث، فحين يصبح حكم عفاش نموذجاً متميزاً وخياراً يتباكى عليه أناس يعوّل عليهم صناعة واقع مختلف لشعوبهم. فنحن أمام حالة مؤسفة لوعي منحدر، يكشف عن تواضع في الطموح وجنوح نحو القبول بنماذج متخلفة لا تشكل أي حالة إلهام أو جاذبية مبشّرة بمستقبل يلحقنا بأجيال العالم.
إن واقعنا المُحبط لا يصح أن يكون مبرراً، للنحيب على زمن آفل ليس فيه ما يبعث على الفخر، كما أن تعرقل أحلام الشباب بواقع مختلف ليس مدعاة للنكوص عنها أو النحيب على ما قبلها، فلا أحد يتخلى عن حلمه لحظة تعرّضه للنزف، فالجرح الذي دفعنا للخروج أول مرّة يشبه جرح أحلامنا المضاعف بعد الخروج، وعند تكاثف الجراح يزداد المرء موثوقية بنبل الهدف، ويعزز من تدابير الحلم، حتى يصل.
أخيراً: لا يوجد مثقف حقيقي واحد وقف مع صالح لحظة خروج الناس ضده، وحتى اليوم، ولا حتى نصف مثقف تباكى نائحاً على عهده.، لا يوجد أبداً، أتحدث عن المثقف بالمفهوم التاريخي للكلمة وليس عن شوية مهرجين ودراويش وخبراء في التسويق للقتلة. هناك مثقفون غضوا الطرف عنه، صمتوا، فضلوا تجاوزه، لكن لا يوجد مثقف حقيقي امتدحه أو تحدث عنه كأسطورة، هذا لم يقله أحد سوى مجموعة من أصحاب المصالح أو ثلة من شباب محبطين وبلا وعي سياسي جيد والصنف الثالث مجموعة كبار السن، كهول اعتقدوا أن صالح هو مصدر كل شيء وبأنه آلهة.